السبت، 4 أبريل 2020

سؤال الغموض في شعر أبي تمام (التفاعل التأملي: دراسة في تلقي القدامى شعر أبي تمام) المختار السعيدي





مما ورد في مقدمة الكتاب: 

وانطلاقا من كل ما سبق ارتأيت أن أنطلق من عمود الشعر باعتباره أفق توقع يتحكم في ردود أفعال متلقي شعر أبي تمام، وقد عنّ لي تقسيم هذا الكتاب إلى  ثلاثة أبواب تكشف درجة التفاعل التأملي للمتلقين القدماء مع النص التمامي، تتجلى في العناصر الآتية:
1-اللفظ والمعنى.
2-الصورة الشعرية.
3-البناء النصي.
وهو تقسيم خاضع لإجراء منهجي، ما دامت العلاقة وطيدة بين تلك الأبواب، إذ لا يتصور       ـ مثلا ـ الحديث عن الصورة الشعرية خارج اللفظ والمعنى، كما أن تلك الصورة تسهم في بناء النص، وهذا ما وضحه الآمدي حين قال: (...لأن التقدمة لا تكون بالمعاني وحدها، وإنما ينظر إلى بحر الشاعر وجنس شعره وبلاغته وقدرته وتمكن خاطره واستواء طريقته... فإن رداءة الكلام منظومه ومنثوره ليست من أجل رداءة المعنى فقط، بل يكون أيضا من أجل رديء اللفظ، وقبيح النظم وسوء التأليف، وأن يقترن البيت بما لا يليق لموضعه)([1]).
ومن هنا فإن الحكم بسخف المعنى قد يكون لاستعمال لفظ غير مناسب، أو استعارة غير معتادة، أو جري وراء الطباق أو التجنيس، أو لأنه خضع لجبروت الوزن أو تسلط القافية... وانطلاقا من الأبواب المحددة أعلاه سأرصد ردود الأفعال حول شعر أبي تمام، من خلال المعايير الجمالية التي شكلت أفق التوقع، ومن ثمة التأكد من مدى استجابة النص التمامي لأفق توقع القراء، وملاحظة التغير، من خلال رصد خيبة ذلك الأفق، وردة الفعل المواكبة له عبر الأبواب التالية.




[1] - الموازنة، 4/469.



وسأهدي للقارئ الكريم هذا المبحث المتعلق بسؤال الغموض الذي أثاره شعر حبيب: 


ب- ســؤال الغمــوض:
ليس الحديث عن غموض معاني أبي تمام خاصا بالمتلقين المتعاقبين، وإنما أثير منذ المتلقين المعاصرين حيث ارتبطت تلك المعاني بسؤال الفهم كما بينت في دراسة سابقة، لا سيما مع علماء اللغة([1])، بيد أن الحديث عن الغموض من لدن المتلقين المتعاقبين سيعرف أشكالا متعددة، وستختلف إزاءه المواقف، من أبي بكر الصولي إلى حازم القرطاجني، وعبر القرون الفاصلة بين هذين العَلمين يكاد يتفق المتلقون على نبذ الغموض الذي ليس وراءه لذة، ويرهق القارئ دون جدوى، في حين لم يتحقق هذا الاتفاق بين من يحبذ الوضوح المطلق، وبين من يرى أن الشيء إذا نيل بعد الكد، كان موقعه من النفس أحلى.
وهكذا فإن الصولي الذي ألف أخبار أبي تمام، رأى فيه أن صنفا من المتلقين المتعصبين: (ما يتضمن أحد منهم القيام بشعره، والتبيين لمراده، بل لا يجسر على إنشاد قصيدة واحدة له، إذ كانت تهجم ـ لابد ـ على خبر لم يروه، ومثل لم يسمعه، ومعنى لم يعرف مثله)([2])، فهو يربط التعصب على أبي تمام بغموض شعره لدى هذا الصنف من المتلقين، وهو غموض وصل إلى حد عدم الجرأة على إنشاد (القراءة بمفهومها السطحي) قصائد أبي تمام المتسمة بالغموض القائم على ثلاثة أسس لا تتوفر في  أولئك المتلقين، كما يتضح من الجدول التفصيلي الآتي:                                                       
العنصر المسهم في الغموض
حالة المتلقي إزاء هذا العنصر
الخبـــر
لم يـــروه
المثـــل
لم يسمعــه
المعنــى
لم يعرف مثله

فحرف النفي الذي يسبق الفعل المضارع الدال على الماضي، يعبر بجلاء عن الحاجز المانع الفهم، والمؤدي إلى الغموض، إذ الرواية والسماع ومعرفة المعاني كلها طرق تؤدي إلى واحة الفهم، والضلال عن بعض الطرق أو جميعها من لدن المتلقي، يجعله هائما في صحراء الغموض، خاصة إذا كان المبدع قد سلك تلك الطرق! وعند حديث الصولي عن هذه الطبقة الطاعنة على حبيب، يبحث في بعض الأسس التي اعتمدتها في الطعن، فيرجع القهقرى إلى المتلقين المعاصرين أبا تمام، ويحاول تفسير ذلك الطعن وتبريره في آن واحد قائلا:
 (أما ما حكي عن بعض العلماء في اجتناب شعره وعيبه، فلا تنكر أن يقع ذلك منهم. لأن أشعار الأوائل قد ذللت لهم، وكثرت لها روايتهم، ووجدوا أئمة قد ماشوها لهم، وراضوا معانيها، فهم يقرأونها سالكين سبيل غيرهم في تفاسيرها، واستجادة جيدها وعيب رديئها [...] وكما قيل: الإنسان عدو ما جهل، ومن جهل شيئا عاداه، وفر العالم منهم من قوله إذا سئل أن يقرأ عليه شعر بشار وأبي نواس ومسلم وأبي تمام وغيرهم، من "لا أحسن" إلى الطعن، وخاصة على أبي تمام، لأنه أقربهم عهدا، وأصعبهم شعرا)([3]).
فأبو بكر كان يرى أن أبا تمام ينظم لقارئ لم يوجد بعد! ذلك بأن أولئك العلماء المعاصرين كانوا يرون الجمال منتسخا في الصور المألوفة التي ذللت لهم من لدن القراء السابقين، أما أبو تمام فقد جمع خلتين لم تمكنا أولئك المتلقين من التواصل مع شعره، وهاتان الخلتان هما: "قرب العهد" و"صعوبة الشعر"؛ وإذا كانت الخلة الثانية لا تثير إشكالا، فإن الأولى قد تبدو غريبة، ذلك بأن العادة قد جرت بأن قرب العهد يكون عاملا مساعدا لفهم الشعر لا العكس، وهذا هو السر في اتكاء المتلقين اللاحقين على أحكام السابقين؛ فكيف يكون قرب العهد عامل انفصال لهؤلاء المتلقين عن شعر أبي تمام لا عامل اتصال؟
إن السبب يكمن في كون الطائي لم يلتزم بنهج الأوائل في النظم الشعري، ومن هنا كان التحوير عن "طريقة العرب" ـ مهما كان هذا التحوير ـ سببا في ذلك الانفصال رغم قرب العهد، بل إن بعد العهد سيمثل عاملا مساعدا في تحقيق التواصل مع شعر حبيب ووضوحه، بقدر ما كان عاملا في غموض بعض نصوصه! آية ذلك أنه يكون عامل تواصل مع تلك النصوص التي خرقت المعايير الجمالية، وخيبت أفق توقع المتلقين المعاصرين، وهذا ما سيوضحه نص طريف لأبي هلال العسكري، سأعرضه لاحقا، وينسجم مع ما ذهبت إليه جمالية التلقي من خلال تقنية الأسئلة والأجوبة. كما أنه يكون عامل غموض مع تلك النصوص التي التزمت بالنهج القديم رغم تغير عادة التلقي والقراءة؛ والخلتان السابقتان قبل هذا وذاك بينهما علاقة سببية، ما دام قرب العهد سببا في صعوبة الشعر. والأمر الذي لا جدال فيه، أن أولئك الطاعنين على حبيب يفتقدون ـ من وجهة نظر الصولي ـ سمات القارئ الخبير القادر على فك شفرات النص، فأبو تمام (مُنِي بمن لا يعرف جيدا ولا ينكر رديئا إلا بالادعاء)([4])، ويحدد الصولي أهم سمات القارئ الخبير الذي يجب أن يكون (أعلم الناس بالكلام منظومه ومنثوره، وأقدر الناس على شيء متى أراده منه، وأحفظهم لأخذ الشعراء، وأعلمهم بمغازيهم ومقصدهم)([5])، إنه القارئ الملم بقوانين الكتابة بمختلف أجناسها "منظومه ومنثوره"، إنه "القارئ الأعلى" المتمكن من تحديد مواقع الإبهام، وذلك لن يتأتى إلا بحافظة قوية تدرك متاهات التناص، أو الأخذ بلغة القدماء، إضافة إلى قدرة فائقة على إدراك قصدية المبدعين أي "مغازيهم ومقصدهم"، دون أن يفوتني التنبيه إلى هذه الإشارة الدالة من خلال تركيز الصولي على تكرار صيغة التفضيل التي تحقق تلك الخبرة المرجوة، فهذا القارئ ضروري لفك شفرات النص المحدث الذي يمثله الشعراء منذ بشار، خاصة وأن في شعرهم (معاني لم يتكلم القدماء بها، ومعاني أومأوا إليها، فأتى بها هؤلاء وأحسنوا فيها)([6]).
فالنص المحدث ليس ذا جدة مطلقة ظهرت فجأة في فضاء يباب، ولكن ثمة إحالات ضمنية وعلنية، تنطلق من أفق المتلقي لتستفزه أحيانا ما دامت تجيب عن أسئلة العصر، ومن هنا غدا شعر هؤلاء (أشبه بالزمان [زمان الصولي]، والناس له أكثر استعمالا في مجالسهم وكتبهم وتمثلهم ومطالبهم)([7]). وهذا ما يجعلني أخلص إلى فرضيتين متعارضتين من خلال كثرة هذا الاستعمال، فإما أن نسبة الشعر الغامض كانت ضئيلة، أو أن المتلقي ولى وجهه شطر الشعر الغامض بعد أن سئم من الشعر الواضح. ومهما يكن فإن الصولي يرى نفسه جديرا بسمات القارئ الخبير بالنص المحدث عموما، وبنص أبي تمام خصوصا، إذ يقول في معرض حديثه عن قصيدة لابن أوس في مدح ابن أبي دؤاد:
 (فعمل قصيدة يمدح ابن أبي دؤاد، ويذكر شفاعة خالد بن يزيد إليه، وأغمض مواضع منها في اعتذاره، فما فسرها أحد قط، وإنما سنح لي استخراجها لحفظي للأخبار التي أومأ إليها. فأما من لا يحفظ الأخبار فإنها لا تقع له)([8]).
والمتأمل لهذه المواضع التي أغمض فيها الطائي يلفيها مجموعة من الأخبار التي ضمنها الطائي نصه، حيث كان يفترض الشاعر في المتلقي أن يكون ذا إلمام بها، إنها بمثابة الجسر الذي يربط بين المبدع والمتلقي حتى تحقق عملية القراءة فاعليتها، وهذا ما ظفر به الصولي الذي كان يحفظ أخبار الشاعر ومن قبله، إذ قال عن أبيات أبي تمام [الكامل]:
(وغدًا تَبَيَّنُ ما براءةُ ساحَتي


لو قد نَفَضْتَ تَهَائِمِي ونجودي

هذا الوليد رأى التثبتَ بعدما


قالوا يزيدُ بنُ المهلبِ مُودِي

يعني الوليد بن عبد الملك، لما هرب يزيد بن المهلب من حبس الحجاج، واستجار بسليمان بن عبد الملك، وكتب الحجاج في قتله إلى الوليد، فلم يزل سليمان بن عبد الملك وعبد العزيز بن الوليد يكلمانه فيه، فقال لا بد من أن تسلموه إليّ، ففعل سليمان ذلك، ووجَّه معه بأيوب ابنه، فقال: لا تفارق يدُك يده، فإن أريدَ بسوء فادفع عنه حتى تُقتلَ دونه.
فَتَزَعْزَعَ الزُّورُ المؤسَّسُ عِنْدَهُ


وبِناءُ هذا الإفْكِ غَيْرُ مَشِيدِ

وتمَكَّنَ ابنُ أبي سَعيد من حِجًى


مَلِكٍ بِشُكْرِ بَنِي المُلوكِ سَعِيدِ

ابن أبي سعيد يعني اليزيد بن مهلب، لأن كنية المهلب أبو سعيد. "من حجى ملك" يعني سليمان بن عبد الملك. "بشكر بني الملوك" يعني آل المهلب، أن سليمان يسعد باقي الدهر بشكرهم له.
ما خالدٌ لي دون أيّوبٍ ولا


عبدِ العزيز ولسْتَ دونَ وليدِ

يقول، شفيعي خالد بن يزيد، وليس هو عندك بدون عبد العزيز بن الوليد، وأيوب بن سليمان عند الوليد؛ هو بك أخص من ذينك بالوليد، ولا أنت دون وليد في الرأي وجميل العفو)([9]).
ومن هنا يمكن أن نخلص إلى أن من الغموض ما يرتبط بعيب في المتلقي الذي لم يرْقَ إلى مستوى النص، ولم يحفظ الأخبار التي تشكل مفاتيح ولوج عرصات النص؛ بيد أن هذا الغموض يمكن تصنيفه في أدنى المراقي، ما دام يزول برواية الخبر؛ أما قمة المراقي فتمثلها تلك المعاني التي لا تتعلق بالأخبار، وإنما تكون علة الغموض فيها نصية: "مثل لم يسمع، أو معنى لم يعرف مثله"، وينقسم هذا الغموض بدوره إلى قسمين: قسم يرتبط بالمتلقي الذي عجز عن اللحاق بالنص، بمعنى أن المثل موجود، والمعنى معروف، ولكن أفق المتلقي لم يدركهما، ومن هنا تتفاوت أحكام القراء على النصوص بين الوضوح والغموض. وقسم يتعالى على المتلقي ما دام المبدع يتكئ فيه على نفسه، وهنا يتحقق شبه الإجماع بين القراء على وصم النص بالغموض، لأنهم سواء في عدم السماع والمعرفة. ويجدر التنبيه إلى أنه ليس هناك حد معلوم بين القسمين، لأن هذا الحد سيتحرك كلما تم اكتشاف معنى، في مدونة الشعر العربي القديم، مشابه لما أتى به أبو تمام. وبين القسمين غدا الشاعر بين مطرقة السرقة وسندان الغموض؛ فحين يجد المتلقي ما يشبه معنى أبي تمام في تلك المدونة يصمه بالسرقة، وحين يعيا عن فهم المعنى، لخلو التراث من نظيره، يتهم الشاعر بالغموض.
وهذا ما تجلى في موازنة الآمدي الذي أفرد "لغامض أبي تمام" جزءا من موازنته عبثت به صروف الزمن([10]). ولتكوين نظرة عن وجهة نظر الآمدي عند إثارته سؤال غموض معاني أبي تمام، كان لزاما تتبع الإشارات المتفرقة عبر أجزاء الموازنة، حيث ظفرت بثمانية أبيات مبثوثة بين ثنايا المؤلف، وهي قول أبي تمام [الطويل]: 
فَكِلنِي إلى شَوْقِي وسِرْ يَسِر الْهَوَى


إلى حُرُقَاتِي بالدُّمُوعِ السَّوارِبِ([11])

وقوله [الكامل]:
إنْ كان مسعودٌ سَقَى أطْلالَهُمْ


سَبلَ الشؤونِ فلسْتُ منْ مَسْعودِ([12])

وقوله [الطويل]:
وقَالتْ أتَنْسَى البَدْرَ قلتُ تَجَلدًا:


إذا الشمْسُ لم تغْرُبْ فَلا طَلعَ البدْرُ([13])

وقوله [البسيط]:
أطاعَهَا الحسْنُ وانحطَّ الشّبابُ عَلى


فُؤادِهَا وجَرَتْ في روحِهَا النَّسَبُ([14])

وقوله [الكامل]:
أهدى كُنَارًا جَدُّهُ فيما مَضَى


للسَّيْلِ واستصْفَى أبَاةَ اليَلْبَقِ([15])

وقوله [الكامل]:
جَهْمِيَّةُ الأوْصاف إلا أنَّهُمْ


قَدْ لقَّبوهَا جَوْهَرَ الأشيَاءِ([16])

وقوله [الكامل]:
أوَلاَ تَرَى الأشيْاءَ إنْ هِيَ غُيِّرَتْ


سَمُجتْ وحُسْنُ الأرض حين تُغَيَّرُ([17])

وقوله في القصيدة نفسها:
من كلِّ زَاهِرَةٍ تَرَقْرَقُ بالنَّدى


فَكأنَّها عَيْنٌ إليْكَ تحَدَّرُ([18])

والملاحظ من خلال تعليقات الآمدي على هذه النماذج أن المعاني الغامضة صنفان: صنف يرى الآمدي غموضه من خلال قراءته الشخصية، وصنف يستجيب فيه لموقف متلقين آخرين كما يستشف من عبارته: «يسأل الناس عنها»([19]).
وعموما فإن الآمدي كان يرى أن غموض معاني أبي تمام بعضِها، تسببه خلتان اثنتان: أولاهما سوء التأليف ورداءة اللفظ، وثانيتهما الإغراق في طلب البديع؛ إذ يقول عن الأولى: (وينبغي أن تعلم أن سوء التأليف ورداءة اللفظ يذهب بطلاوة المعنى الدقيق ويفسده ويعمّيه حتى يحوج مستمعه إلى طول تأمل، وهذا مذهب أبي تمام في عظم شعره)([20]).
 وهكذا يلاحظ مدى ترابط العناصر المؤلفة  أفق التوقع كما سبقت الإشارة، وإذا كنت سأؤجل الحديث عن رداءة اللفظ وسوء التأليف إلى حين، فإن ما يهمنا بالأساس هو النتيجة المترتبة عن هذين العنصرين، والتي ينبني عليها مذهب أبي تمام في الجانب المتعلق بالمعنى، علاقة تقوم على الكد وطول التأمل من لدن القارئ، بسبب تعمية المعنى وإفساده وإذهاب طلاوته من لدن المبدع، فتجلى ذلك في النص المتسم بسوء التأليف ورداءة اللفظ! فإذا كانت النصوص الواضحة تحظى بحكم جمالي، بسبب أن المعنى يستقر في القلب مع قرع اللفظ الأذن، فإن هذه النصوص الغامضة فقدت تلك القيمة الجمالية، بسبب عدم وصول المعنى إلى القلب مع وصول اللفظ إلى الأذن، ومن هنا يصدر الحكم برداءة اللفظ عقابا له على عدم الأخذ بيد المعنى الذي يرهق المتلقي، ويدفعه إلى طلبه بدل انتظاره!
ويقول عن الثانية مفسرا قول من قال: إن أبا تمام اتبع مسلم بن الوليد ـ أول من أفسد الشعر ـ وسلك في البديع مذهبه فتحيّر فيه: (كأنهم يريدون إغراقه في طلب الطباق والتجنيس والاستعارات، وإسرافه في التماس هذه الأبواب وتوشيح شعره بها، حتى صار كثير مما أتى به من المعاني لا يُعْرَف ولا يعلم غرضه فيها إلا بعد الكد والفكر وطول  التأمل، ومنه ما لا يعرف معناه إلا بالظن والحدس)([21]).
ومن هنا يغدو البديع أحد أسباب الغموض، بيد أنه غموض يتخذ هذه المرة تجليين اثنين: الأول يُعلم فيه قصد الشاعر وغرضه، لكن بعد جهد جهيد من لدن المتلقي، كما يشي بذلك قول الآمدي: "بعد الكد والفكر وطول التأمل"، والثاني لا يظفر فيه المتلقي بقصد الشاعر إلا ظنا، ولا يؤوب فيه بالمعنى إلا حدسا؛ والتجليان كلاهما ينطلقان من الجزم بكون المعنى موجودا في النص، ينتظر من يُخرجُه، وهذا ما ثارت عليه جمالية التلقي حين أكدت على أن المعنى نتاج علاقة حوارية بين القارئ والنص. ويمكن اعتبار التجلي الثاني الذي يعترف بنسبية المعنى وعدم الظفر بالحقيقة إلا بالظن والحدس، أقرب إلى تحقق هذه العلاقة الحوارية، ما دام يقرّ بتعدد القراءات الناجمة عن تعدد الفراغات أو مواقع اللاتحديد.
ولم يقتصر الآمدي على استعمال مصطلع الغموض، وإنما ربطه بمنظومة من المفاهيم وشبكة من المصطلحات التي تنتمي إلى عائلة المصطلح الأم، لعل من أبرزها: العويص والإحالة والتعقيد والكهانة والجنون والحمق... دون أن أغفل دلالة تشبيه الأبيات التي خيبت أفق توقع الآمدي بكلام أبي العبر في مرات عديدة.
فإذا أخذنا مصطلح العويص، مثلا، نجد موقف الآمدي سلبيا منه، إذ يقول عن بيت أبي تمام الأول من ضمن الأبيات الثمانية السالفة، بعد أن يوجه المعنى، ويبين أنه مما يسأل الناس عنه: (وهذه العويصات في الشعر هي شر مذاهبه، وأرداها وأقلها حلاوة)([22])؛ فحتى العويص درجات متفاوتة في الغموض والتعقيد، ولعل أدنى تلك الدرجات ما كان يكشف فيه الآمدي عن المعنى الذي فهمه هو؛ وينسب نص أبي تمام إلى الخطأ؛ ومن هنا يبرز لنا أن بين الغموض والخطأ ستارا شفافا يجعل الحكم مترددا بينهما، وهذا ليس أمرا جديدا مع الآمدي، فقد رأينا من قبل تعليل الصولي لمن خطّأ أبا تمام، لكن الفرق بين أولئك والآمدي، أن هذا كان يعلل الخطأ عندما يعوص المعنى ويقترب من عرين المحال، فيقيسه على صواب الممكن، ومن ذلك قوله معلقا على بيت – في باب أخطاء الشاعر - أبي تمام [البسيط]:
(تَنَاوَلُ الفَوْتَ أيْدي الموت قادرةٌ


إذا تناولَ سيفا منهمُ بطلُ

قوله: "تناول الفوت أيدي الموت" عويص من عويصاته، وهو أيضا محال وإنما سمع قول "سعد بن مالك" يقول [مخلع البسيط]:
هَيْهاتَ حَالَ المَوْتُ دو

(م)
نَ الفَوْتِ وانتُضِيَ السِّلاحُ

والفوت: هو النجاة، أي حال الموت دون النجاة، وهذا صحيح مستقيم، فقال هو: "تناول الفوت أيدي الموت" وهذا محال، لأن النجاة لا تتناولها يد الموت ولا تصل إليها، وإلا لم تكن نجاة.
وهذا من تقعره الذي يخرجه إلى الخطأ، وإنما قصد إلى ازدواج الكلام في الفوت والموت، ولم يتأمل المعنى)([23]).
فالعويص المحال في نظر الآمدي هو أن أبا تمام جعل يد الموت تتناول النجاة، ووجه الإحالة يكمن في أن النجاة لا تمتد إليها يد الموت، وهذا صحيح بالقياس المنطقي، ولكنه غير كذلك بالقياس الشعري! إذ يجوز أن يكون الفوت مجازا مرسلا علاقته اعتبار ما كان، وذلك أضعف تأويل أمام رحابة اللغة الشعرية؛ وأما الصواب المقيس عليه، فهو بيت سعد بن مالك الذي استجاب لأفق توقع الآمدي، واللافت للنظر هو ذلك الربط الذي أقامه أبو القاسم بين تلقي أبي تمام بيت سعد، وإبداعه بيته "العويص" حين قال أبو القاسم: «وإنما سمع... فقال هو...» فهل يكفي إيراد بيت سعد في الحماسة للحكم بأنه الشرارة التي قدحت زناد حبيب؟! أضف إلى هذا جزم الآمدي بقصدية الشاعر، واتهامه بعدم تأمل المعنى!
ولا يكاد الآمدي يذكر تعقيد أبي تمام وغموضه، إلا ويقرنه بالرداءة والهجانة، ومن ذلك قوله؛ وقد رأى هذه المرة أن علة الغموض تكمن في الحذف والاختصار، لا البعد عن الصواب:
(وقال أبو تمام في هذا المعنى [الخروج إلى المديح بذكر الغيث ومباراته] أيضا [الطويل]:
شَجَا في الْحَشا تَرْدَادُهُ ليْسَ يَفْتُرُ


بِهِ صُمْنَ آمَالي وإنِّي لمُفْطِرُ

حَلفْتُ بِمُستَنِّ المُنَى تَسْتَرِشُّها


سَحَائِبُ كفٍّ بالرغائب تُمْطِرُ

إذا دَرَجَتْ فِيهِ الصَّبَا كفْكَفَتْ لها


وَقَام يباريهَا أبو الفضل جَعْفَرُ

هذه ألفاظ ومعان ونسج في غاية الرداءة والهجانة، والبعد من البلاغة والبراعة، على ما فيها من التعقيد واتفاق المعاني (...) وهذان البيتان لا يتصلان بالبيت الأول. وإنما كان وجه الكلام أن يقول: شجا في الحشا كان ترداده ليس يفتر، وكانت آمالي به صائمة، فحللت بمستن منى من حاله وصفته. حتى يتصل الكلام بعضه ببعض. والحذف والاختصار في كلام العرب موجود، ولكن ليس في مثل هذا)([24]).
فعلة الغموض ليست مطلق الحذف والاختصار، وإنما لأن الشاعر قد خرق أفق التوقع ولم يحترم المعايير الجمالية المتفق عليها عند سلوك ذلك المسلك، ومن هنا تدخل القارئ الضمني، ليس لبيان الحذف والاختصار وتوجيهه فحسب، وإنما لإعادة كتابة النص الذي فقد بسبب ذلك أبرز تلك المعايير، والمتمثل في الاتصال والترابط، غير أن هذا التدخل من لدن القارئ الضمني الذي جسده الآمدي حين أعاد كتابة النص كي يستجيب لأفق توقعه بدل مراجعة هذا الأفق، لم يحترم الوزن والقافية باعتبارهما العنصر المهيمن المشكل جنس النص الشعري.
ولا يختلف صاحب الوساطة عما فعله الآمدي حين مزج بين الخطأ والغموض، إذ قال القاضي الجرجاني معلقا على تفسير المتلقين من قبله بيت أبي تمام [المنسرح]:
قَلْتًا مِنَ الرِّيقِ ناقِعَ الذَّوْبِ إلْـ   (م)     ـلا أنَّ بَرْدَ الأكْبادِ في جَمَدِهْ[25]
فقد سلك مفسرو هذا البيت غير طريق، وقالوا فيه غير قول، فلم يزيدوا على تأكيد المحال بالمحال، وإضافة الخطأ إلى الخطأ، وما معنى جمد الريق؟ وكيف يكون برد الأكباد في جامده دون ذائبه! وقد أعطاك أن ذوبه ناقع مر، وهل بعد الري برد الأكباد!)([26]).
فواضح أن هذا البيت قد خيب أفق توقع القاضي، كما يتضح من هذا النص، لأن الطائي لم يسلك الطريق المعهودة في التعبير، ومن ثمة ترك المتلقين يخبطون خبط عشواء للظفر بالمعنى الذي قصده الشاعر، بيد أنهم من وجهة نظر القاضي قد تاهوا في صحراء المحال، وضلوا في بيداء الخطأ، لأنهم انطلقوا انطلاقة خاطئة حين اتبعوا وجهة الشاعر، واقتفوا أثره؛ ولم يقولوا له قد أخطأت وركبت المحال!
وإذا كان القاضي يأخذ على الطائي هذا الغموض الذي أربك المتلقين العلماء، فإنه يلح من جهة ثانية على ضرورة تجنب الغموض عندما يتوجه الشاعر إلى متلق مقصود ذي ثقافة محدودة! إذ يقول في هذا الصدد: (ويقول [الخفيف]:
قَسَّمَتْ لي وَقَاسَمَتْنِي بسلطا

(م)
نٍ من السِّحْرِ مقلتَا عَبْدوسِ

فالقسيم القسَّامُ عن لحظاتٍ


منهما يخْتَلسْنَ حُبَّ النُّفوسِ

فالذي قاسمتْ بلحْظٍ إذا الليْـــلُ تَمَطَّى مِنَ الكرى المنفوسِ

ولست أدري ـ يشهد الله ـ كيف تصور له أن يتغزل ويَنْسِب، وأي حبيب يستعطف بالفلسفة! وكيف يتسع قلب عبدوس هذا؛ وهو غلام غر، وحدث مترف؛ لاستخراج العويص، وإظهار المعمى)([27]).
والقاضي الجرجاني يرى أن أبا تمام لم يرض بخلتي توعير اللفظ وطلب البديع حتى (اجتلب المعاني الغامضة، وقصد الأغراض الخفية، فاحتمل فيها كل غث ثقيل، وأرصد لها الأفكار بكل سبيل؛ فصار هذا الجنس من شعره إذا قرع السمع لم يصل إلى القلب إلا بعد إتعاب الفكر، وكد الخاطر، والحمل على القريحة؛ فإن ظفر به فذلك من بعد العناء والمشقة، وحين حسره الإعياء، وأوهن قوَّته الكلال. وتلك حال لا تهش فيها النفس للاستماع بحسن، أو الالتذاذ بمستظرف؛ وهذه جريرة التكلف)([28]).
فالجرجاني يصوغ معادلة بين نمط من فعل الإبداع، وما يقابله من رد فعل القراءة، إذ يقصد المبدع الغموض، مما يتطلب من المتلقي عملا موازيا يضاهي عمل المبدع، لكن هذا المتلقي اعتاد نمطا من الإبداع الشعري يحقق متعة القراءة بعيدا عن إجهاد الفكر وإتعاب الخاطر، فاتخذ موقفا سلبيا من هذا النمط الجديد الذي يزعج المتلقي حين يحثه على النصب في طلب المعنى، بدل انتظاره تحت أفياء المعاني الجاهزة!
ورغم كل هذا فإن القاضي الجرجاني لا يرى أن الغموض يحط من قدر الشاعر، أو يؤخره عن رتبته، بل إن الغموض عموما، وغموض أبيات أبي تمام خصوصا، قد أحدث فئة جديدة من المتلقين لم تكن من قبل، ووسع عادة من عادات التلقي والقراءة، حيث يقول في هذا الصدد مدافعا عن غموض المتنبي معللا بغموض أبي تمام!:
 (ولو كان التعقيد وغموض المعنى يسقطان شاعرا لوجب أن لا يُرَى لأبي تمام بيت واحد؛ فإننا لا نعلم له قصيدة تسلم من بيت أو بيتين قد وفر من التعقيد حظهما؛ وأفسد به لفظهما، ولذلك كثر الاختلاف في معانيه، وصار استخراجها بابا منفردا؛ ينتسب إليه طائفة من أهل الأدب، وصارت تُتَطارح في المجالس مطارحة أبيات المعاني، وألغاز المعمّى)([29]).
 فالفئة الجديدة التي أحْدِثَتْ هي تلك الطائفة من أهل الأدب التي تستخرج المعاني الغامضة المختلف فيها، ولعل الآمدي الذي أفرد بابا لغامض معاني أبي تمام في موازنته مِنْ أبرز مَنْ يمثل هذه الطائفة؛ وأما عادة القراءة التي اتسعت فتتمثل في كون تلك الأبيات غدت تقرأ مطارحة، شأنها شأن قراءة أبيات المعاني وألغاز المعمى. والحديث عن أبيات المعاني يستلزم الحديث عن الغموض باعتباره السمة المميزة لهذه الأبيات، كما يوضح القاضي الجرجاني ذلك قائلا: (وليس في الأرض بيت من أبيات المعاني لقديم أو محدث إلا ومعناه غامض مستتر؛ ولولا ذلك لم تكن إلا كغيرها من الشعر، ولم تفردْ فيها الكتب المصنفة، وتشغل باستخراجها الأفكار [الفارعة](*))([30]). وقد كان القاضي الجرجاني أكثر وضوحا حين بيَّن ما يعنيه بالغموض، حيث نفى الصنف المرتبط باللفظ، وعادة الاستماع قائلا: (ولسنا نريد القسم الذي خفاء معانيه واستتارها من جهة غرابة اللفظ وتوحش الكلام، ومن قبل بعد العهد وتغير الرسم)([31])؛ ثم وضح الصنف الذي يقصده قائلا: (وإنما أريد مثل قول الأعشى [المتقارب]:
إذَا كانَ هَادِي الفتَى في البلا

(م)
دِ صَدْرَ القناةِ أطاعَ الأمِيرَا

فإن هذا البيت ـ كما تراه ـ سليم النظم من التعقيد، بعيد اللفظ عن الاستكراه، لا تشكل كل كلمة بانفرادها على أدنى العامة، فإذا أردت الوقوف على مراد الشاعر فمن المحال عندي، والممتنع في رأيي أن تصل إليه إلا من شاهد الأعشى بقوله، فاستدل بشاهد الحال، وفحوى الخطاب، فأما أهل زماننا، فلا أجيز أن يعرفوه إلا سماعا إذا اقتصر بهم من الإنشاد على هذا البيت المفرد؛ فإن تقدموه أو تأخروا عنه بأبيات، لم أبعد أن يستدل على بعض الكلام ببعض، وإلا فمن يسمع بهذا البيت فيعلم أنه يريد: أن الفتى إذا كبر فاحتاج إلى لزوم العصا أطاع لمن يأمره وينهاه، واستسلم لقائده، وذهبت شِرَّتُه!)([32]).
فواضح أن الغموض ناجم عن قطع البيت عن سياقه، مما يضع نظرية وحدة البيت أمام محك التشكيك، ما دام فهم البيت مرتبطا بما قبله وبما بعده، لأن الكلام يستدل على بعضه ببعض؛ فهذا الغموض أفقي أكثر منه عمودي، أي أنه يرتبط بالدلالات التي يقدمها النص، أكثر من ارتباطه بالفراغات التي يملؤها المتلقي، ومن هنا كان دور هذا الأخير محدودا في هذا الصنف، ومقيدا بالقارئ السابق "سماعا"، أو بتوفر تلك الدلالات النصية "يستدل ببعض الكلام على بعض".
والقاضي الجرجاني يرى أن شعر أبي تمام يحوي الصنفين كليهما من الغموض، حيث يقول بعد أن برّأ المتنبي من غموض الصنف الأول: (فأما ديوان أبي تمام فهو مشحون بهذين الصنفين)([33]).
والذي لا ريب فيه أن الصنف الأول ليس ثابتا، بل متحولا بتحول أفق التوقع و"بعد العهد بالعادة وتغير الرسم"؛ ولعل أطرف النصوص في هذا المجال، ما أورده أبو هلال العسكري حين قال:
(وسمع أعرابي قصيدة أبي تمام [الكامل]:
*طَللَ الجَمِيـع لقَـدْ عَفـوتَ حَمِيـدا*
فقال: إن في هذه القصيدة أشياء أفهمها، وأشياء لا أفهمها؛ فإما أن يكون قائلها أشعر من جميع الناس، وإما أن يكون جميع الناس أشعر منه. ونحن نفهم معاني هذه القصيدة بأسرها؛ لعادتنا بسماع مثلها، لا لأنا أعرف بالكلام من الأعراب)([34])، وسواء أكان متلقي قصيدة أبي تمام أعرابيا عاديا، أم عالما من علماء اللغة، كما بينت ذلك في كتاب سابق([35])؛ فإن الأمر الأساسي الذي يقرره العسكري هو هذا التحول في أفق التوقع من الغموض إلى الوضوح، ومن حيرة الشك إلى يقين الفهم، إذ لم يعد في النص ما لم يُسمع، أو لم يُعْرف مثله، بل أصبحت معاني القصيدة كلُّها مفهومة، لأن المتلقي لم تعد تصدمه بدعة النظم الشعري التي أحدثها حبيب، حيث اتجهت قرائح الشعراء من بعده إلى النسج على منواله، فانتقلت عادة التلقي والسماع من نمط واحد، نمط القدماء، لتشمل هذا النمط البديعي الذي يخلخل الأفق السائد، ويتعب المتلقي قبل الظفر بالمعنى إن تمَّ له ذلك!
وطرافة هذا النص لا تقف عند هذا الحد، بل تقدم لنا أيضا إضاءتين بارزتين:
أولاهما: استعمال ضمير المتكلم الجمع، مما يدل على أن هذا التحول ليس فرديا خاصا بالعسكري، وإنما يمثل اتجاها عاما يشمل طائفة من المتلقين؛ وثانيتهما: ذلك الفصل الطريف الذي أقامه أبو هلال بين عادة  التلقي، ومعرفة الكلام، ورغم أنه فصل ينطلق من تقديس الماضي والقدماء، أصحاب العلم والمعرفة، لا سيما أولئك الذين لم تفسد ألسنتهم، فإنه يقدم العادة على المعرفة، معترفا بدور الأولى الحاسم في عملية الفهم، مبرزا أهمية تلقي نمط من النصوص في فعل القراءة، وأن هذا التلقي أجدى من معرفة قوانين الكلام، باعتبار أن هذه القوانين ليست إلا تراكما لنصوص سابقة غدت موضع سؤال جديد من لدن أبي تمام!
ويدخل أبو هلال العسكـري في دائـرة الغموض الكلام (الشديد التعليق بعض ألفاظه ببعض حتى يستبهم المعنى، كقول أبي تمام [الكامل]:
جارَى إليْهِ البَيْنُ وصْلَ خَريدَةٍ


ماشتْ إليْهِ الْمَطْلَ مَشْيَ الأكْبَدِ


يا يومَ شرّدَ يَوْمَ لهوي  لَهْـــــــــــــوُهُ

بصبابتي وأذلَّ عزَّ تَجَــلُّدي


يومٌ أفاضَ جَوًى أغاضَ تَعَزِّيا


خاضَ الهوى بحرَيْ حِجاهُ المزبد

جعل الحجا مزبدا)([36]). ومن هنا يبرز مدى التداخل بين الحديث عن اللفظ والتأليف والاستعارة، باعتبارها عناصر تسهم في بناء المعنى.
كما يدخل المعنى المشترك الذي يحتمل قراءات متعددة، ويشرح هذا الصنف قائلا: (هو أن يريد الإبانة عن معنى فيأتي بألفاظ لا تدل عليه خاصة، بل تشترك معه فيها معان أخر، فلا يعرف السامع أيها أراد. وربما استبهم الكلام في نوع من هذا الجنس حتى لا يوقف على معناه إلا بالتوهم)([37]).
ومما يحمل هذه السمة قول أبي تمام [الطويل]: 
(وقمْنا فقلْنا بعد أن أفردَ الثرَى


بِهِ ما يُقالُ في السحابَة تقلِعُ

فقول الناس في السحاب إذا أقلع على وجوه كثيرة؛ فمنهم من يمدحه، ومنهم من يذمه، ومنهم من كان يحب إقلاعه، ومنهم من كان يكره إقشاعه، على حسب ما كانت حالاتها عندهم، ومواقعها منهم؛ فلم يُبِنْ بقوله ما يقال في السحابة تقلع معنى يعتمده السامع)([38]).
فبيت أبي تمام يحمل من الفراغات الدلالية ما يجعل تحققه يتم بطرق شتى، تترتب عن موقف المتلقين من السحاب بين المدح والذم، ومن هنا حب إقلاعه أو كره إقشاعه، وتناقض هذين الموقفين، يلزم عنه تناقض القراءتين، بيْد أن هناك قراءة أقرب إلى القبول، قراءة تنطلق من العادة والمحمود عند الجماعة التي ينتمي إليها المبدع والمتلقي كلاهما، لذا يتدخل القارئ الضمني ـ الذي يجسد كل الاستعدادات المسبقة لتلقي العمل الأدبي، ومنها الموقف من السحاب ـ ليتحكم في توجيه القراءة ويجادل القارئ المقصود (العسكري) قائلا: (على أن المحتج له لو قال: إن أكثر العادة في السحاب أن يحمد أثره، ويُثنى عليه بعده، لما كان مبعدا)([39])؛ غير أن هذا القارئ الضمني لم يضع في حسبانه عدول الطائي عن العادة، بل إن استعداده المسبق وجَّهَ القارئ المقصود لكي يقرّ بتفضيل بيت مسلم بن الوليد وبيت ابن قيس الرقيات، لأن بيتيهما أبين من بيت أبي تمام([40])، فالبحث عن البيان والتبيين والوضوح كان يشكل أفق توقع المتلقين على اختلاف أصنافهم، ومن ثمة كانوا يفضلون النصوص التي تستجيب لأفق توقعهم على النصوص التي تخيب ذلك الأفق، وفي مقدمتها نصوص أبي تمام المتشحة بستار الغموض! وفي هذا السياق يرى أبو هلال أن من قصد الإبانة، ثم أتى بالإغلاق دلَّ على عجزه وقصوره، إذ يقول: (فأما من أراد الإبانة في مديح، أو غزل، أو صفة شيء، فأتى بإغلاقٍ دلَّ ذلك على عجزه عن الإبانة، وقصوره عن الإفصاح، كأبي تمام حيث يقول [البسيط]:
خانَ الصفَاءَ أخٌ خانَ الزمانُ أخًا


عنْهُ فلمْ يَتَخَوَّنْ جِسْمَهُ الْكَمَدُ

وقوله [الكامل]:
يومٌ أفاضَ جَوًى أغاضَ تَعَزِّيا


خاضَ الهوى بحرَيْ حِجاهُ المزبد

وقوله [البسيط]:
وإنَّ نجريَّةً بانت جأرْتُ لها


إلى يدي جَلدي فاستوهك الجَلدُ

وقوله [الكامل]:
جهميةُ الأوصاف إلا أنَّهُمْ


قَدْ لقَّبُوهَا جَوْهَرَ الأشْياء)([41])

غير أنه يجب التنبيه إلى هذه المعادلة التي أقامها العسكري بين المبدع والمتلقي، حيث أهمل المتلقي، وأسس المعادلة على المبدع وحده، الذي يريد (القصدية) الإبانة، فيأتي بالإغلاق (الغموض)، بيد أن المتأمل يجزم بأن المعادلة مقلوبة، إذ يُعْتَبر المتلقي هو العنصر الدينامي، فهو الذي جزم بأن المبدع أراد الإبانة، وهو الذي حكم على معنى النص بالغموض والإغلاق!
ومع بداية القرن الخامس كانت الحاجة ملحة لحصر هذه الأبيات الغامضة المتداولة في المجالس، وهذا ما اضطلع به أبو علي المرزوقي الذي ألف كتابا، لم يجزم المحقق بعنوانه حين أورد الاحتمالين، بيد أنه كتب الأول بخط أبرز من الثاني، حيث نلفي العنوان على الشكل الآتي:
شرح مشكل أبيات أبي تمام المفـردة
أو
تفسير معاني أبيات شعر أبي تمام
ومهما كان العنوان الذي قصده المرزوقي أول مرة، واعتمده آخر مرة، فإن "شرح المشكل" و"تفسير المعاني" وجهان لعملة واحدة، هي عملة الغموض التي تحتاج إلى صرف الإيضاح والبيان، خصوصا وأنها أضحت عملة رائجة زمن المرزوقي، كما يوضح ذلك في المقدمة التي يوجهها إلى قارئ مقصود قائلا:
(جاريتني ـ أيدك الله ـ أمر شعر حبيب بن أوس الطائي، وما فيه من عويص الأبيات، وبديع المعاني والألفاظ، إلى غير ذلك مما يستبد به فنه ولا يساهَم، ويختص به نهجه فلا يقاسَم، ثم سألت أن أتتبع مشاهير كلماته، فألتقط من فقرها ما يفتقر إلى تبيين، ومن بيوتها ما يحوج إلى تفسير، ثم أتبع كلا منه بما يحتمل من تلخيص، بأوجز ما أمكن من لفظ، وأقرب ما أعرض من بسط، لتجعل ذلك دليلا يهدي إلى الأغمض من باقيه، ومعينا يُعْدي على ألطف ما فيه، وقد نظرت في عظم ديوانه، وجمعت منه جل ما يلقى في المجالس من أبياته، ثم تحريت في شرحها مسارك، وتوخيت فيما سهل منه أو توعر تحصيل مرادك، غير محتفل بما يلحق من كد، ولا مفكر فيما يعرض من طلب، حتى حصل على حد يملك الناظر فيه أدنى تأمل له عنان هذا الشعر وزمامه، ويخير المذاكر، بعد أيسر تمرن به، غرض هذا الشاعر وسهامه. فمتى جارى فيه سبق، وإذا ناضل له قرطس)([42]).
فالمرزوقي قد استجاب لطلب القارئ المقصود في تبيين ما ميز مذهب حبيب في القول الشعري، مذهب يقوم على أساسين اثنين هما: العويص والبديع، ولا ريب في أن ما بين هذين الأساسين من ترابط أكثر مما بينهما من انفصال، ما دام البديع يؤدي إلى العويص، وقد اعتمد المرزوقي على أفق التلقي السائد في استنباط الأبيات التي تمثل ذلك المذهب، كما يشير إلى ذلك قوله: "وجمعت منه جل ما يلقى في المجالس من أبياته"، ومعلوم أن الأبيات الغامضة غير محصورة فيما أورده المرزوقي كما يستشف ذلك من قوله: "لتجعل ذلك دليلا يهدي على الأغمض من باقيه"، حيث إنه اعتمد المتداول المشهور من المعاني الغامضة، موقنا بنسبية الحكم على المعنى بالغموض، إذ يرتبط ذلك الحكم بأفق المتلقي لا ببنية النص، وهذا ما يوحي به خطاب المرزوقي، الذي يجعل ما أورده في شرح المشكل دليلا لما غمض من بقية أبيات حبيب! وقد بلغت الأبيات المشكلة التي أوردها محقق الكتاب ستا وثلاثين وستمائة بيت (636)، إلا أن هذا الرقم لا يعكس حقيقة العدد، ما دام أبو علي يقدم أحيانا بعض الأبيات متتالية ليعقبها بشرح قد لا يشير لإحداها([43]). أما القصائد والمقطوعات فقد بلغت في شرح المشكل ثمان وعشرين ومائة (128) من مجموع تسعين وأربعمائة (490)([44])، مما يشكل نسبة مائوية 26,12%، أي أن ربع نصوص أبي تمام تقريبا، قد تضمنت أبياتا مشكلة تحتاج إلى شرح وإيضاح من وجهة نظر المرزوقي التي يؤطرها أفق التوقع السائد، بينما ثلاثة أرباع القصائد والمقطوعات لم تتضمن ولو بيتا مشكلا، غير أن إشارة المرزوقي السالفة بأن شرحه فقط دليل للغامض من شعر حبيب يحد من دلالات هذا الإحصاء.
والأمر البارز في مؤلف المرزوقي أنه احتفل بالمعنى كثيرا، وقد كان يعدد الاحتمالات الجائزة دون أن يرجح أحدها في أغلب الأحيان([45])، مما يعني أن كل تلك القراءات جائزة، وهذا تحول مهم من النظرة الأحادية المطلقة التي تبحث عن معنى مخبوء في النص، إلى القراءة المتحررة التي ترى إمكانية تعدد القراءات للنص الواحد، وما يثير الإكبار حقا أن هذه القراءات صادرة عن قارئ واحد!
وتجدر الإشارة إلى أن الأبيات المشكلة قد تضمنت أيضا ما صنّفه كثير من المتلقين ضمن الأخطاء، مما يعني أن المشكل عند المرزوقي مصطلح شامل، إذ إن الحكم بالخطأ قد يكون نتيجة وجوابا عن سؤال الغموض، بسبب اختلاف مستويات المتلقين الذين أسهم بعضهم في ذلك الغموض على حد رأي أبي العلاء المعري؛ إذ ينقل الخطيب التبريزي عنه قائلا:
 (إنما أغلقَ شعرَ الطائيَّ، أنه لم يؤثر عنه فتناقلته الضعفة من الرواة، والجهلة من الناسخين، فبدلوا الحركة بالحركة، فأوقعوا الناظر بما جنوه في أم أدراص وتغلس، وغيروا بعض الأحرف بسوء التصحيف، فغادروا الفهم خابطا في عشواء؛ لأن تغيير الضمة إلى الفتحة والكسرة ينشب الفطن في الحبالة، فأما نقل الحاء إلى الخاء، والدال إلى الذال، فيحدث عنه إلباس، تقرن به بلادة وانتكاس)([46]).
فمن الواضح أن أبا العلاء يحمل المتلقي مسؤولية في غموض بعض معاني أبي تمام، وإن كان الصولي سبقه في الإشارة إلى هذه المسؤولية، غير أننا نجد فارقا جوهريا بين نظرة هذين القارئين؛ حيث إن الصولي ينطلق من حكم مسبق في اتهام المتلقي حتى  تثبت براءته! إذ صاغ هذا الاتهام انطلاقا من القاعدة التالية:
عدم فهم شعر أبي تمام = عيب أبي تمام = جهل المتلقي.
أما المعري فإنه يحمل المسؤولية فئة من المتلقين كانت الداء الدوي، حيث أثرت على غيرها من المتلقين، وتمثل هذه الفئة وسيطا بين المبدع وبقية المتلقين، وتتمثل في الرواة الضعفة، والناسخين الجهلة؛ فالرواة يمثلون بقايا الشفهية، والناسخون يمثلون طلائع الكتابة، بيد أن من يمثل البقايا أو الطلائع لم يكن قارئا خبيرا، وإنما كان يمثل الصنف الأضعف، كما تشير إلى ذلك صفتا الضعف والجهل، وقد زاد من فضح هؤلاء طريقة الشاعر الجديدة وخرقه لأفق التوقع السائد؛ ومن ثمة ألقوا بالمتلقي عموما (الناظر) في تهلكة الغموض، وغادروا المتلقي الخبير (الفهم – الفطن) هائما في مفازة الالتباس، وهذا ما يفسر اعتماد أبي العلاء على القراءة التوثيقية (الروايات المختلفة) عند الشرح، وتركيزه على اللغة في فعل القراءة الشارحة، كما لاحظ ذلك الدكتور محمد عبده عزام الذي لم يستسغ تعدد قراءات أبي العلاء للمعنى الواحد([47]).
وما دمت بصدد الحديث عن الشراح، لا بد من الإشارة إلى تقارب أهدافهم، ما داموا ينتمون إلى جماعة التفسير ذاتها، إذ كان هدف كل منهم يتجلى أساسا في البحث عن المعنى الكامن في شعر حبيب، ومن ثمة الجواب عن سؤال الغموض في إطار الشرح المهدى غالبا إلى متلق مقصود ذي مكانة متميزة في المجتمع، وهكذا يهدي الأعلم الشنتمري شرح ديوان حبيب إلى المعتضد بالله، إذ يقول، مبينا أن هدفه الجواب عن سؤال الغموض، ومتوقعا قبول المتلقين الخبراء عمله:
(ولما كان العلم من أقوى أسباب الوصول، وأوكد أسباب القربة لعلمه بسرائره المطوية، وظهوره على وجوهه الخفية، أهديت إليه قطرة من فضلها أنها من غمره، ودرة رونقها وحسنها أنها من بحره، وقصدي بفائدتها، واعتقادي في تمني ثمرتها كوكب الغرب الذي أنار سناه الشرق، وبدر التم الذي عمَّ نوره الخلق، الحاجب الظافر أبو القاسم المعتضد بالله المنصور بفضل الله، زاد الله حظه نماء، وقدره علاء، لينظر فيها مع سائر ما ينظر فيه من كتب الأدب الذي قصرت الهمم النفيسة على الاعتناء به، والتحلي بحسنه وبهائه، والذي خصصته به أعزه الله تعالى شعر أبي تمام حبيب بن أوس الطائي بعد أن تكلفت له قرب شرح معانيه، وتبيين أغراضه وتقريب مراميه وفتح مغالقه، ما أرجو أن العالم المنصف سيقر بفضله على ما تقدمه من الشروح المؤلفة فيه إن شاء الله)([48]).
ويهدي الخطيب التبريزي شرح الديوان ذاته إلى المولى أبي نصر محمد بن عماد الدين مبرزا تأثير هذا المتلقي في عمل الشرح، إذ يقول، موضحا ذلك، ومبينا منهجه، ومعترفا بتعدد القراءات، وملحا على أهمية القارئ الخبير ما دام نقد الشعر أصعب من نظمه:
(وإنما حثني على الاشتغال به، وتمييز ما ذكره العلماء فيه، من معنى أو إعراب، واختلفوا فيه، ميل المولى أبي نصر محمد بن عماد الدين ـ مولى أمير المؤمنين ـ إلى شعره، ورغبته فيه دون سائر دواوين المحدثين. فلما رأيت كثرة ميله إليه، وصدق رغبته فيه، استعنت الله تعالى على شرحه، وذكر الغريب والمعاني والإعراب فيه، وترجيح بعض أقوال العلماء فيه على بعض، لأن منهم من أنصفه، ومنهم من أنحى عليه، وربما احتمل البيت معنيين، ويكون أحد المعنيين أقوى من الآخر، فلا يميز بينهما إلا مَنْ حَسُن فَهمه، وصفا ذهنه، لأن نقد الشعر أصعب من نظمه؛ فأوضحت ذلك بإيراد ما لا محيد عنه للقارئ منه، والناظر فيه، بلفظ موجز، قليله يدل على الكثير، وقصيره يغني عن التطويل، فخير الشروح ما قل ودل، ولم يطل فيمل)([49]).
وتتجلى خبرة التبريزي في تراكم القراءات في مؤلفه، إذ يبرز في هذا الصدد استفادته من متلقين سابقين احتفل بعضهم بغامض المعاني، حيث يصرح بمتلقين بارزين، حين يقول في ترتيب ارتدادي من الحاضر إلى الماضي: (وأشير إلى ما ذكره أبو العلاء من الأبيات المشكلة في مواضعها، وإلى ما ذكره أبو علي أحمد بن محمد بن الحسن المرزوقي في كتابه المعروف بالانتصار من ظلمة أبي تمام، وإلى ما ذكره أبو القاسم الحسن بن بشر الآمدي في معاني شعره، وما ذكره أبو بكر محمد بن يحيى الصولي، وما وقع إليّ مما روي عن أبي علي المعروف بالقالي، وغيره من شيوخ المغرب)([50]). وليس الاعتماد على هؤلاء الفطاحلة ممن سبق التبريزي سوى وعي منه بصعوبة المسلك عند الاقتراب من شعر حبيب المختلف عن شعر غيره، وهذا ما صرَّح به الخطيب قائلا: (لأن في شعره صنعة لا يكاد يخلو منها، ومواضع مشكلة تصعب على كثير من الناس، لا سيما على من لا يستأنس بطريقته، فيقع لذلك فيه خلل، لأن شعر غيره يقرب متناوله، ويسهل على القارئ التوصل إلى معرفة معانيه وأغراضه)([51]). فالتبريزي يشير إلى اختلاف النظرة إلى شعر حبيب باختلاف القراء، ما دام المبدع قد سلك طريقا جديدة لم يعهدها القراء العاديون الذين يقرأون الجديد بمنظار القديم، ومن ثمة يصعب عليهم رؤية المعاني بوضوح إن اختلفت السبيل، كما فعل حبيب.
أما ابن المستوفي فإنه أشار في مقدمة النظام إلى سبب تأليفه، الذي لا يعدو عن كونه جوابا عن سؤال الغموض المتداول بين المتلقين آنذاك، حيث يقول:
(فإني وجدت الناس كثيرا ما يتجاذبون القول فيما أشكل من معاني أبي تمام حبيب بن أوس الطائي، وأبي الطيب أحمد بن الحسين الجعفي، لميلهما كثيرا عن الطبع إلى التكلف، وعدولهما غالبا عن العفو إلى المستكره)([52])، بيد أن اللافت للنظر في شرح النظام أن الغموض قد تجاوز نص أبي تمام ليشمل أحيانا بعض القراءات التي كانت تشكل جوابا عن سؤال الغموض، مما يعني حدوث تغير في عادة القراءة([53]).
وإذا كانت جماعة الشراح قد تفاعلت مع نص أبي تمام الغامض عمليا، فإن جماعة النقاد والبلاغيين قد غلب على تفاعلها الجانب النظري دون إهمال الشق التطبيقي، إذ يعد ابن سنان الخفاجي من أبرز من أثاروا سؤال الغموض بشكل دقيق، حيث يصرح بأسباب الغموض قائلا: (الأسباب التي لأجلها يغمض الكلام على السامع، ستة: اثنان منها في اللفظ بانفراده، واثنان في تأليف الألفاظ بعضها مع بعض، واثنان في المعنى)([54])، ويشرح السببين الأخيرين قائلا: (وأما اللذان في المعنى؛ فأحدهما أن يكون في نفسه دقيقا. ككثير من مسائل الكلام في اللطيف، والآخر أن يحتاج في فهمه إلى مقدمات إذا تصورت بني الكلام عليها، فلا تكون المقدمات حصلت للمخاطب، فلا يقع له فهم المعنى. كالذي يريد فهم فروع الكلام والنحو وغيرهما من العلوم قبل الوقوف على الأصول التي بنيت تلك الفروع عليها)([55]). والملاحظ أن ابن سنان كان يسير مع التيار العام، وأفق التوقع السائد المنتصر للوضوح والمستهجن الغموض، حيث سخّرَ طاقته للرد على أبي إسحاق إبراهيم بن هلال الصابي الذي فرق بين جنسي النظم والنثر على أساس الوضوح والغموض، إذ يقول ابن سنان: (ومن شروط الفصاحة والبلاغة: أن يكون معنى الكلام واضحا ظاهرا جليا لا يحتاج إلى فكر في استخراجه وتأمل لفهمه، وسواء كان ذلك الكلام الذي لا يحتاج إلى فكر منظوما أو منثورا.
وإنما احتجنا إلى هذا التفصيل لأن أبا إسحاق إبراهيم بن هلال الصابي غلط في هذا الموضع، فزعم أن الحسن من الشعر ما أعطاك معناه بعد مطاولة ومماطلة، والحسن من النثر ما سبق معناه لفظه، ففرق بين النظم والنثر في هذا الحكم)([56])؛ ثم يعلن ابن سنان عن رأيه المعارض لهذا التوجه قائلا: (ولا فرق بينهما ولا شبهة تعترض المتأمل في ذلك)([57])، وهذا الموقف الذي يتبناه ابن سنان يقوم على تصور شائع آنذاك للعلاقة بين المبدع والمتلقي عبر وساطة النص، حيث يقول في هذا الصدد: (والدليل على صحة ما ذهبنا، أنا قد بينا أن الكلام غير مقصود في نفسه، وإنما احتيج إليه ليعبر الناس عن أغراضهم، ويُفهموا المعاني التي في نفوسهم [...] ثم لا يخلو أن يكون المعبر عن غرضه بالكلام يريد إفهام ذلك المعنى أو لا يريد إفهامه)([58]). وهذه الثنائية التي لا تقبل غرضا وسطا بين إرادة الإفهام وعدمها، وتجعل دور المتلقي سلبيا حين تنيط القصدية بالمبدع وحده، جعلت ابن سنان يخلص إلى نتيجة ذات دلالة واضحة، حيث يقول: (فإن كان يريد إفهامه، فيجب أن يجتهد في بلوغ هذا الغَرض بإيضاح اللفظ ما أمكنه، وإن كان لا يريد إفهامه، فليدع العبارة عنه فهو أبلغ في غرضه)([59])؛ بيد أنه يناقض نفسه، ويخرج عن هذه الثنائية بعيد ذلك، حين يتحدث عن "الكلام الذي وضع لغزا وقصد ذلك فيه"([60])، إذ يقول، دون أن يستحضر دعوته، من قبل، ترك التعبير باعتباره أدل على الغموض إن لم يكن المقصود من الكلام الإفهام: (إن الموضوع على وجه الإلغاز قد قصد قائله إغماض المعنى وإخفاءه، وجعل ذلك فنا من الفنون التي يستخرج بها أفهام الناس، وتمتحن أذهانهم، فلما كان وضعه على خلاف وضع الكلام في الأصل، كان القول فيه مخالفا لقولنا في فصيح الكلام، حتى صار يحسن فيه ما كان ظاهره يدل على التناقض، أو ما جرى مجرى ذلك)([61])، غير أن تجنيس شعر الإلغاز أو المعمى أو شعر المعاني ارتبط فعله بالمتلقي أكثر من ارتباطه بقصدية المبدع، التي يبقى إدراكها أمرا بعيد المنال.
وربما أدرك الخفاجي وقوعه في فخ التناقض فعمل على إخراج هذا النوع من دائرة الفصاحة، حيث قال؛ بعد أن استعرض بعض النماذج: (فهذا وأمثاله ليس من الفصاحة بشيء، وإنما هو مذهب مفرد وطريقة أخرى)([62])؛ ورغم كل هذه النظرة المنتصرة للوضوح، فإن ابن سنان، حين عرض جواب أبي تمام المفحم لأبي العميثل([63])، يرى أن كلا منهما قال كلاما صحيحا، حيث يقول معللا تلك الصحة: (لأن أبا العميثل طلب من أبي تمام إذا كان حاذقا في صناعة الشعر، وقد قصد مثل عبد الله بن طاهر بالمديح، أن يكون شعره مفهوما واضحا يسبق معناه لفظه، فكان هذا من أبي العميثل كلاما صحيحا في موضعه، وطلب أبو تمام من أبي العميثل إذ كان يدعي علم الشعر ويتحقق بالأدب، ويخدم عبد الله بن طاهر في اعتراض قصائد الشعراء وترتيبهم على مقدار ما يستحقه كل منهم بحظه من الصناعة، أن يكون يفهم معاني الشعر، ويطلع على الغامض والظاهر منها، وكان هذا من أبي تمام أيضا كلاما صحيحا، وكانا فيه بمنزلة من يقول لصاحبه، لم فعلت ذلك الفعل وهو قبيح؟ فيقول الآخر: كما فعلت أنت ذلك الفعل الآخر وهو قبيح! فيكون كل واحد منهما قد أجاب من طريق الجدل، وإن كان لم يدل على أنه أصاب وأخطأ صاحبه)([64]). فابن سنان يرى أن اعتماد الشاعر الغموض فعل قبيح، كما أن عجز المتلقي عن فك شفرات النص الغامض لا يقل عن فعل المبدع قبحا!
ويبدو أن نص المتنبي قد سحب سؤال الغموض من نص أبي تمام، حيث توارى حبيب عن ثنائية الوضوح والغموض التي غدت بين البحتري والمتنبي بعد أن كانت بين الطائين، إذ يقول ابن سنان: (وإذا كان هذا مفهوما فأمثلة الكلام الذي يظهر معناه ولا يحتاج إلى الفكر في استخراجه كثيرة، وعامة شعر أبي عبادة البحتري عليه. فأما الذي يُسأل عن معناه ويُفكَّرُ في فهمه، فكالأبيات التي من شعر أبي الطيب المتنبي، وقد نعاها عليه الصاحب أبو القاسم بن عباد رحمه الله، وكان يسميها رقى العقارب، والناس إلى اليوم مختلفون في معاني بعضها، وكل يذهب إلى فن، ويسبق خاطره إلى غرض)([65]).
ورغم بعض التحول مع الإمام عبد القاهر الجرجاني في النظرة إلى المعنى الغامض، فإنه لم يخرج عن الأفق السائد ما دام يرى: (أن أنس النفوس موقوف على أن تخرجها من خفي إلى جلي، وتأتيها بصريح بعد مكني، وأن تردها في الشيء تعلمها إياه إلى شيء آخر هي بشأنه أعلم، وثقتها به في المعرفة أحكم)([66]). ورغم تأكيده على أنه: (من المركوز في الطبع أن الشيء إذا نيل بعد الطلب له أو الاشتياق إليه، ومعاناة الحنين نحوه، كان نيله أحلى، وبالمزية أولى، فكان موقعه من النفس أجل وألطف، وكانت به أضن وأشغف)([67])؛ إلا أنه يحتاط حين أنكر عليه القارئ الافتراضي هذا التوجه قائلا: (فيجب على هذا أن يكون التعقيد والتعمية وتعمد ما يكسب المعنى غموضا، مشرفا له وزائدا في فضله، وهذا خلاف ما عليه الناس، ألا تراهم قالوا: إن خير الكلام ما كان معناه إلى قلبك أسبق من لفظه إلى سمعك؟)([68])، فيجيب الإمام عبدُ القاهر: (إني لم أرد هذا الحد من الفكر والتعب، وإنما أردت القدر الذي يحتاج إليه في نحو قوله [الوافر]:
*فـإنَّ المسْـكَ بعْـضُ دم الغـزالِ*
(...) فإنك تعلم على كل حال أن هذا الضرب من المعاني، كالجوهر في الصدف لا يبرز لك إلا أن تشقه عنه، وكالعزيز المحتجب لا يري وجهه حتى تستأذن عليه)([69])؛ إلا أن الإمام عبد القاهر لم يعرض لحالة هذا العزيز أو ذاك الجوهر بعد الاستئذان أو الشق، أيعود العزيز إلى احتجابه، والجوهر إلى صدفه؟ أم يغدوان مبتذلين لا يحتاجان إلى كد القراءة، وجهد الكشف، بعد أن قام قارئ سابق بذلك الكد والجهد.
وقد أبرز الإمام عبد القاهر علة ذم صنَف من الغموض، متمثلة في سوء  ترتيب في اللفظ، حيث يقول: (والمعقد من الشعر والكلام لم يذم، لأنه ما تقع حاجة فيه إلى الفكر على الجملة، بل لأن صاحبه يتعثر فكرك في متصرَّفه، ويشيك طريقك إلى المعنى، ويوعر مذهبك نحوه، بل ربّمَا قسَّمَ فكرك، وشعَّبَ ظنك، حتى لا تدري من أين تتوصل، وكيف تطلب)([70]).
فالإمام عبد القاهر يُحمل المبدع وحده مسؤولية التعقيد، إذ عليه أن يسلك الطريق السابلة في التعبير حتى يريح المتلقي، بل إن الإمام لا يأبه بخصوصية الجنس الأدبي، حين جمع بين الشعر وعامة الكلام في قوله: "والمعقد من الشعر والكلام"، رغم أنه أشار إلى تفرد الشعر في مناسبات عديدة. غير أن معارضة هذا الصنف من "الكلام المعقد" لا تعني أن عبد القاهر الجرجاني كان ميالا للمعنى الواضح، فهو حتى حين يورد قول العرب الذي غدا معيارا جماليا: "ما كان معناه إلى قلبك أسبق من لفظه إلى سمعك"، يرى أن قصدهم حث المتكلم/المبدع على أن يجتهد (في ترتيب اللفظ وتهذيبه وصيانته من كل ما أخلَّ بالدلالة، وعاق دون الإبانة، ولم يريدوا أن خير الكلام ما كان غفلا مثل ما يتراجعه الصبيان، ويتكلم به العامة في السوق)([71]). ومن هنا يحتاج المتلقي إلى جهد مماثل كي ينبعث في طلب المعنى ويجتهد في نيله، إذ يقول الإمام عبد القاهر في هذا النص الفذ حين يحث المتلقي على تعظيم ما كابده المبدع:
(هذا وإن توقفت في حاجتك أيها السامع للمعنى إلى الفكر في تحصيله، فهل تشك في أن الشاعر الذي أداه إليك، ونشر بزه لديك، قد تحمل فيه المشقة الشديدة، وقطع إليه الشقة البعيدة، وأنه لم يصل إلى درّه حتى غاص، ولم ينل المطلوب حتى كابد منه الامتناع والاعتياص؟ ومعلوم أن الشيء إذا علم أنه لم ينل في أصله إلا بعد التعب، ولم يدرك إلا باحتمال النصب، كان للعلم بذلك من أمره من الدعاء إلى تعظيمه، وأخذ الناس بتفخيمه، ما يكون لمباشرة الجهد فيه، وملاقاة الكرب دونه)([72]).
 وبناء على هذا يغدو قول العرب "خير الشعر أكذبه" مؤسسا على قصدية الصنعة من المبدع، وتوفر الغموض "المقبول" في النص، إضافة إلى قارئ متميز يفك شفرات ذلك الغموض الإيجابي، حيث يقول عبد القاهر الجرجاني: (وكيف دار الأمر، فإنهم لم يقولوا: "خير الشعر أكذبه"، وهم يريدون كلاما غفلا ساذجا يكذب فيه صاحبه ويفرط، نحو أن يصف الحارس بأوصاف الخليفة، ويقول للبائس المسكين: "إنك أمير العراقين"، ولكن ما فيه صنعة يتعمل لها، وتدقيق في المعاني يحتاج معه إلى فطنة لطيفة، وفهم ثاقب وغوص شديد)([73]).
وإذا كان ابن سنان وابن المستوفي يريان أن المتنبي يمثل ذروة النص الغامض، فإن كثيرا من المتلقين المغاربة كانوا يرون ذلك الغموض في نص الطائي الأكبر، وهو ما جعلهم يقدمون عليه أبا الطيب كما يوحي بذلك كلام ابن لُبَّال الشريشي حين يقول: (قال الفقيه المشاور الأستاذ أبو الحسن علي بن لبال أدام الله عزته، وقال الفقيه الأستاذ النحوي ابن مسلم عند سؤالنا إياه، واقتباسنا منه ما حفظه من العلم ووعاه: إن الوزير الفقيه الأديب اللغوي أبا مروان بن سراج كان لا يقرئ من شعر أبي تمام إلا ثلاثة أبيات، وكان يقرئ من شعر أبي الطيب خمسة أبيات. وهذا أيضا شاهد على طبع أبي الطيب، فقد قيل: خير الشعر ما وراك نفسه، وشر الشعر ما سئل عن معناه)([74])؛ وبعد أن قدم ابن لبال مجموعة من الشواهد والأدلة التي تبين احتفال العرب بالوضوح وإيثارهم له انسجاما مع أفق التوقع السائد، يقول: (والمطبوع لا يعرض نفسه إلى هذا الطعن باستغلاق اللفظ وإيهام المعنى كأبي الطيب، ولذلك كان ابن سراج يقرئ من شعر المتنبي أكثر من شعر حبيب، لسهولة لفظه وبيان معناه)([75]).
ومن المتلقين الذين اهتموا بتحديد العلاقة بين المتلقي والنص الأدبي نذكر ابن الأثير الذي حصر تلك العلاقة في ثلاثة أصناف خلال حديثه عن تأويل المعنى، إذ يقول: (ولا يخلو تأويل المعنى من ثلاثة أقسام: إما أن يفهم منه شيء واحد لا يحتمل غيره، وإما أن يفهم منه الشيء وغيره، وتلك الغيرية إما أن تكون ضدا أو لا تكون ضدا، وليس لنا قسم رابع)([76])؛ وإذا كان النوع الأول غير ذي قيمة، ما دامت القراءة غير متعددة، لأن النص لا يحمل فراغات تتيح ذلك التعدد، فإن النوعين الآخرين ينسجمان وما ذهبت إليه جمالية التلقي من تعدد القراءات للنص الواحد، بسبب الفراغات التي تتضمنها بعض وحداته، ويضرب ابن الأثير مثلا لهذا التعدد قائلا: (وعلى هذا قول أبي تمام [البسيط]:
بالشعر طولٌ إذا اصطكَّتْ قَصَائِدُهُ


في مَعْشَرٍ وبِهِ عن معْشَرٍ قِصَرُ

فهذا البيت يحتمل تأويلين: أحدهما أن الشعر يتسع مجاله بمدحك، ويضيق بمدح غيرك، يريد بذلك أن مآثره كثيرة، ومآثر غيره قليلة، والآخر أن الشعر يكون ذا فخر وتباه بمدحك، وذا خمول بمدح غيرك، فلفظة الطول يفهم منها ضد القصر، ويفهم منها الفخر؛ طال فلان على فلان أي فخر عليه)([77]).
والمتأمل يدرك العلاقة الوطيدة بين المعنيين، وأنهما يرجعان في الأصل إلى معنى واحد؛ إذ اتساع مجال الشعر وفخره وتباهيه بمدح المخاطب نتيجة كثرة مآثره، يقابلها ضيقه وخموله بمدح غيره بسبب قلة المآثر؛ إنها علاقة ضدية بين الرحابة والغنى، مقابل الضيق والفقر، وهي ترجع في الأصل إلى تلك العلاقة بين الطول والقصر، وهذا راجع أساسا إلى أن المعنى الثاني الذي قدّمه ابن الأثير للطول، مؤسس على المعنى الأصلي الأول للكلمة.
ويعد حازم القرطاجني من أبرز النقاد المنظرين إثارة لسؤال الغموض، إذ يرى ـ خلافا لابن سنان ـ أن الدلالة على المعاني: (على ثلاثة أضرب: دلالة إيضاح ودلالة إبهام، ودلالة إيضاح وإبهام معا)([78])؛ ورغم هذا الاختلاف فإنه يتفق معه حين يرى أن: (وجوه الإغماض في المعاني: منها ما يرجع إلى المعاني أنفسها، ومنها ما يرجع إلى الألفاظ والعبارات المدلول بها على المعنى، ومنها ما يرجع إلى المعاني والألفاظ معا)([79])؛ ويشرح حازم الغموض الذي يرجع إلى المعاني أنفسها قائلا: (أن يكون المعنى في نفسه دقيقا لطيفا يحتاج إلى تأمل وفهم، ومنها أن يكون المعنى قد أخل ببعض أجزائه ولم تستوف أقسامه، ومن ذلك أن يكون المعنى مرتبا على معنى آخر لا يمكن فهمه وتصوره إلا به، ومنه أن يكون المعنى منحرفا بالكلام وغرضه من مقصده الواضح معدولا إليه عما هو أحق بالمحل منه)([80])، ولا يكتفي حازم برصد أسباب الغموض، وإنما يرسم للمبدع المسالك لتجاوز الغموض والاشتكال في المعاني، حين فصّل في الوجوه الأربعة السالفة([81]).
كما لا يفوته الحديث عن "توقف فهم المعاني على أمر خارجي"، إذ يرى في هذا الصدد أن: (الواجب ألا يستعمل في الشعر من الأخبار إلا ما شهر، وألا يستعمل فيه شيء من معاني العلوم والصنائع، ولا شيء من عباراتهم إذا كان الغرض مبنيا على ما هو خارج عن تلك العلوم والصنائع. فأما إذا كان غرض الشعر مبنيا على وصف أشياء علمية أو صناعية ومحاكاتها والتخييل في شيء شيء منها، فإيراد تلك المعاني والعبارات غير معيب في ذلك الغرض، لأن الشاعر أن يحاكي شيئا من جميع الموجودات ويخيل في واحد واحد منها ما تميل إليه النفوس أو تنفر عنه)([82]).
إذ من الواضح أن حازما يبني رأيه على التأثير في المتلقي، ولا يخفى تأثير ابن سنان في حازم، إلى درجة أنه أورد شاهدين لأبي تمام أوردهما ابن سنان في إطار حديثه عن وضع الألفاظ موضعها([83]).
ولاستجلاء ردود أفعال المتلقين القدامى حول المعاني الغامضة لأبي تمام، سأورد بعض النماذج التي أثارها أبرز بيت أثار سؤال الغموض وهو قول حبيب [الكامل]:
جَهْمِيَّةُ الأوْصاف إلا أنَّهُمْ


قَدْ لقَّبوهَا جَوْهَرَ الأشيَاءِ([84])

وإذا كان الصولي من أوائل قراء شعر أبي تمام المتعاقبين، فإنه لم يشر إلى غموض البيت، وإنما اكتفى بتقديم شرحه، وإن كان في هذا الشرح دلالة ضمنية على الغموض، باعتبار الأبيات الواضحة لا تحتاج إلى شرح؛ إذ قال الصولي: (مذهب جهم الجحد وقلة التحصيل. من رقتها تكاد لا تتحصل، إلا أنهم على حال قد جعلوها جوهرا، أي أصلا للأشياء يريد قدمها)([85]). فقد قدم الصولي تعريفا مقتضبا لمذهب جهم، ثم ربطه بالموضوع (وصف الخمرة)، وقصدية الشاعر (يريد)؛ وهكذا فإن المعرفة المسبقة بهذا المذهب، قد تدخلت لتوجيه عملية القراءة، وأي تعقيد في قراءة هذا البيت، سيرتبط باختلاف تلك المعرفة المسبقة كما سنرى. والملاحظ أن أبا بكر قد لمح إلى الركنين المسهمين في غموض البيت، مصطلحي الجهمية والجوهر. وهما المصطلحان اللذان انطلق منهما الآمدي في تحديد ركني الغموض بشكل أوضح، حين قال في الموازنة:
(وقوله: "جهمية الأوصاف" قد أكثر الناس في تعاطي تفسيره، وأقرب ما سمعته فيه أن "جهما" كان يقول: إنه ليس شيء على الحقيقة غير الله تعالى، إذ كل شيء يبطل ويتلاشى غيره، وأن الأشياء كلها أعراض ألفها وخلقها.
وأظن أبا تمام أراد أن الراح لرقتها عرض لا جسم، وهذا مذهب قريب.
وقوله: "قد لقبوها جوهر الأشياء" هو الذي لم أرهم يصححون له تفسيرا إلا على الظن، لأنهم ما رأوا أحدا لقبها هذا اللقب، وقد سمعت من يقول: إنما أراد قدمها، وإن من أسمائها "الخندريس"، و"الخندريس" القديمة، ولعمري إنها قديمة، ولكن ليست جوهر الأشياء، و لا هي أول لها، وما زلت أسمع الشيوخ يقولون: إن هذا البيت من تخليطه ووساوسه، لأن الشعر إنما يُستحسن إذا فُهِم، وهذه الأشياء التي يأتي بها منغلقة، ليست على مذاهب الأوائل ولا المتأخرين)([86]).
والملاحظة الأولى حول قراءة الآمدي أنها قراءة انتقائية، تصطفي فعلها انطلاقا من اختيار قراءة معينة لمذهب جهم؛ وفي قول أبي القاسم: "أكثر الناس في تعاطي تفسيره"، دلالة بليغة على كثرة الفراغات التي تحبل بها العبارة، وتعدد عمليات التحقق العياني التي قام بها القراء/الناس، بسبب اختلاف النظرة إلى المذهب الجهمي، حيث اختار الآمدي النظرة التي يراها الأقرب إلى حقيقة المذهب القائم على وحدة الوجود، ومن هنا يؤسس فعل القراءة غير اليقيني: "أظن"، بسبب تواري قصدية المبدع: "أراد" خلف ضباب المذهب الجهمي. لكن فعل القراءة، لم يبتعد عن أفق التوقع السائد المنبني على القراءة المرجعية المفترشة الواقع، والمغطاة بالحقيقة، وهذا ما يعكسه قول الآمدي أولا: "وأقرب"، وقوله أخيرا: "وهذا مذهب قريب". ولعل هذه القراءة المرجعية أشد وضوحا في قراءة الركن الثاني، حيث يبرز سؤال الفهم من جديد، ومعه يبرز سؤال الغموض والجودة، وهكذا يبدأ الآمدي من النبش في ثرى القراءات السابقة، ليخلص إلى النتيجة التالية: "لم أرهم يصححون له تفسيرا إلا على الظن"، والعبارة تخفي بين طياتها مدح القراءة اليقينية، وذم القراءة الظنية، لأن ثقافة الآمدي ـ كأغلب نقاد عصره ـ تنفر من الظن الذي بعضه إثم، رغم أنه بنى قراءة الركن الأول: «جهمية الأوصاف» على الظن حين قال: "وأظن". وظنية هذه القراءات جميعها تعود إلى كون الأساس الذي بنيت عليه يتمثل في القياس على الواقع، أو البحث عن الحقيقة، أو كلاهما معا، كما يشي بذلك قول الآمدي: "لأنهم ما رأوا أحدا لقبها هذا اللقب"؛ إنها قراءة تبحث عن تحديد هؤلاء الذين لقبوا الخمرة جوهر الأشياء، وكأن وظيفة الشاعر هي سرد الآراء ونقل المعارف، بل هي كذلك عند من يبحث فيمن لقَّبَ، قبل أن يبحث في ما وراء اللغة الشعرية المراوغة، ولما لم يجد أولئك الشيوخُ، أولئك الذين لقبوا الخمرة جوهر الأشياء، نكسوا على رؤوسهم وقالوا: "إن هذا البيت من تخليطه ووساوسه"؛ حتى القراءة التي حاولت أن تبحث لقصدية أبي تمام عن مكان لا يصدم أفق التوقع السائد، تلاشت واضمحلت أمام صرامة الآمدي وصلابة أفقه وانغلاقه حين قال: "وقد سمعت من يقول ... ولكن ليست جوهر الأشياء". وبعد هذا يُكشف الغطاء عن الأفق المتحكم في قراءة هذا النوع من الشعر: شعر الوسوسة والتخليط، وهو السؤال القديم: "لم تقول ما لا يفهم، وأنت تدري بأن الشعر يُستحسن إذا فُهم؟"، إنه امتداد لقارئ معاصر لأبي تمام، يتكىء على مذاهب الأوائل اتكاء، فيخيب أفق توقعه حين يرى أبا تمام عدَل عن ذلك المذهب، بل وعدل عن مذهب المتأخرين أيضا، وأحب «أن يكون أمة وحده»([87])، وهذا ما يبرر تساؤل الآمدي الدال في تعقيبه على بيت الطائي [البسيط]:
مِنْ كُل بَيْتٍ يَكادُ المَيْتُ يَفهَمه


حُسْنًا ويَعْبُدُهُ القِرْطاسُ والقَلمُ

"فالأحياء ما فهمته فهلا عن الموتى!؟"([88]).
وخلاصة القول؛ إن قراءة الآمدي تسير مع التيار السائد في الاعتماد على قراءة الأسلاف (الشيوخ) أولا، وفي رفع راية الوضوح لافتة لتلقي الشعر ثانيا، وفي الاكتفاء بلفت النظر إلى انحراف المبدع عن صراط الشعر المستقيم، دون سبر غور ذلك الانحراف ثالثا، ومن هنا لم يَستطع تفجير الطاقة الفنية الكامنة في النص، ما دامت الذات القارئة لم تتحرر من سلطة القراء السابقين الذين يحملون رواسب الدهشة الجمالية الواقفة على عتبة النص، دون جرأة ولوج عوالمه الغامضة، وبعبارة أوضح: لم يتحقق ذلك التفاعل بين فنية النص وجمالية الذات القارئة، لأن هذه الذات انطلقت من مذاهب الأوائل، وانتهت عند مذاهب المتأخرين، بينما فنية النص نُحتت من غير هذه أو تلك، مما جعل الذات القارئة تلفظ تلك الفنية ولا تسيغها.
 ولا بدع أن يجعل المرزوقي هذا البيت من ضمن مشكل أبيات أبي تمام، ولكنه يؤثر رواية "الوصاف"، ويجعل رواية "الأوصاف" في الدرجة الثانية حيث يقول: (ويروى "الأوصاف". وكان جهم بن صفوان يمتنع من أن يسمى الله تعالى شيئا، يعتقد أن هذه اللفظة إنما تطلق على المحدثات: الجواهر والأعراض. فيقول: رقت هذه الخمرة حتى كادت تخرج من أن تكون عرضا أو جوهرا، أو أن تسَمَّى شيئا، إلا أنها لجلالة شأنها وفخامتها في نفسها لقبت بجوهر الأشياء كلها. ويجوز أن يكون أراد أنها لعتقها سميت أصل الأشياء وأول الأشياء)([89]).
وهكذا ينطلق المرزوقي هو الآخر أيضا من النبش في حقيقة  المذهب الجهمي كي يفسر صفة الخمرة، انطلاقا من قصدية الشاعر المزج بين مذهب فلسفي ومشروب حسي! والأمر البارز في قراءة المرزوقي أنه لم يقتصر على قراءة واحدة، وإنما قدم قراءتين تتيحهما فراغات البنية النصية، بل إن ابن المستوفي ينقل من كتاب المرزوقي "الانتصار من ظلمة أبي تمام" قوله بعد إيراد شرح الصولي:
(لم يعجبني إلا معرفته بالمذاهب، والذي نسبه إلى جهم في الجحد وقلة التحصيل ليس بمذهب جهم. والحق في هذا هو أن مذهب جهم بن صفوان أن يمتنع من أن يسمى الله تعالى شيئا، ويعتقد أن هذه اللفظة وضعت للمحدثات: الأجسام والأعراض. ويقول الله منشئ الأشياء، وليس بشيء، ولا يعلم حقيقة الشيء. [والشيء] في اللغة هو كل ما جاز أن يعلم ويخبر عنه، فيقول أبو تمام: هذه الخمر لرقتها لا يسمونها شيئا، ولكنهم لعتقها وقدمها جعلوها أصل الأشياء وجوهرها. وهذا هو الذي لا يجوز غيره. وقد بسطناه بأتم من هذا في تفسير المشكلات)([90]).
ففي هذه القراءة أدمج المرزوقي الاحتمالين السالفين، فالخمرة لا تسمى شيئا رغم أنها أصل الأشياء، وذلك راجع لرقتها من جهة، ولقدمها من جهة ثانية.
وتبدو قراءة أبي العلاء المعري لهذا البيت متفردة متلألئة، حيث يقول: ("الوصاف" أجود في الرواية من "الأوصاف"، لقوله: "لقبوها" فأعاد الضمير على المذكورين، فهو أحسن من الرواية الأخرى. وهذا البيت مبني على ما قبله، وهو قوله: "خرقاء يلعب بالعقول حبابها"، لأنه أخبر عنها بالشيء وخلافه. والجهمية: طائفة من المتكلمين ينسبون إلى رجل يقال له "جهم"، من اعتقادهم أن الإنسان لا يستطيع أن يفعل شيئا، ويلزمونه العقوبة على ما يفعل، فتقع بذلك المناقضة، والطائي من وصاف الخمر، فكأنه قد ذهب مذهب جهم، لأنه جعل الخمر لا فعل لها. ثم يزعم أنها أسكرته وشوقته، فيختلف خبراه عنها في الحال الواحدة. وقوله: "جوهر الأشياء" هذا ضرب من صناعة الشعر يسميه أصحاب النقد "التورية". وذلك أنه ذكر هذه الطائفة من المتكلمين، ومن شأنهم أن يتكلموا في الجوهر والعرض، فأوهم السامع أنه يريد الجوهر الذي يستعمله أصحاب الكلام، وإنما يريد الجوهر الذي هو رونق الشيء وصفاؤه، من قولك: ظهر جوهر الشيء؛ أي أن الأشياء ليس لها حسن إلا بالخمر. وأصحاب المنطق يجعلون الجوهر الذي يسمّيه غيرهم "الجسم": فالأرض عندهم جوهر، وكذلك الإنسان والفرس. والمتكلمون المحدثون يقولون: الجوهر؛ الجزء الذي لا يتجزأ)([91]).
 فالملاحظ أولا أن أبا العلاء يركز على الرواية انسجاما مع ملاحظته التي أوردها الخطيب سابقا([92])، حيث يعتمد الأجود والأحسن، ما دامت إعادة الضمير على مذكور أبلغ من إضمار ما لم يسبق له ذكر، لا سيما إذا كان هذا الذي لم يسبق له ذكر غير معروف عند جمهور المتلقين([93]). وإضافة إلى هذه القراءة التوثيقية المفاضِلة بين الروايات، فإن المعري قد اعتمد على القراءة الأفقية حين ربط بين هذا البيت والبيت السابق الذي يصف فيه الطائي الخمرة بصفتين متضادتين: فهي خرقاء من جهة، ولكنها تلعب بالعقول من جهة ثانية؛ ورجوع أبي العلاء إلى البيت السابق، فرضته نظرته إلى مذهب جهم القائم أساسا على عدم استطاعة الإنسان فعل شيء، ورغم هذا يُلزم العقوبة على ما يفعل، ومن هنا تتضح العلاقة بين البيتين:
           *الخمـر خرقــاء (لا فعـل لهــا)   لكنها  تلعب بالعقول (لها فعل = السُّكر)
المناقضة       
           *الجهمية ترى أن الإنسان لا يستطيع الفعل  لكنها  تلزمه العقوبة على الفعل
وهكذا يمكن القول إن أبا العلاء قد استطاع تفجير تلك الطاقة الفنية الكامنة في النص، بعد عجز المتلقين السابقين، وهذا راجع إلى تلك القدرة الجمالية لشاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء، المتجلية أساسا في الاطلاع على الملل والنحل مع إدراك وظيفتها في النص، وهذا الاطلاع مكنه من الاستمرار في عملية التفجير، حيث استطاع أن يقدم قراءة جديدة للركن الثاني، إذ مزج بين قدرته البلاغية، ومعرفته الكلامية، فلم يعد المعنى من تخليط أبي تمام ووساوسه، بل تحول إلى لعبة فنية، يقوم من خلالها المبدع بمراوغة المتلقي عن طريق حيلة التورية التي لم يفطن إليها المتلقون السابقون! غير أن أبا العلاء قد فطن إلى هذه اللعبة، وأدرك معها قصدية الشاعر الذي "أوهم السامع"، بل إن هذه العبارة وحدها تشهد لأبي العلاء بحدة الذكاء، وبأنه يمتلك كل سمات القارئ الخبير، إذ لم يكتف بتحليل التورية دون الإتيان بهذه العبارة المفتاح التي تولج إلى قصدية المبدع إيهام السامع.. وحقا فقد وهم السامعون قبل أبي العلاء حين قالوا ما قالوا قبل أن يفطن هو إلى لعبة التورية التي سبقت نظرية التلقي في الإشارة إلى العلاقة بين قصدية المبدع وقصدية المتلقي، رغم أنها بَنَتِ الفعل على قصدية الأول انسجاما مع الأفق السائد في الاحتفال بمنتج النص، ومن هنا يغدو الركن الأول غير منفصل عن الركن الثاني، حيث مثل الطريق الأول لقراءته، ورمى القراء في صحراء الغموض والإيهام.. قبل أن يأتي قارئ خبير بحيل الشعراء ومخاتلاتهم بما لم تستطعه الأوائل! حين أرجع كلمة الجوهر، التي أضلت المتلقين، إلى أصلها اللغوي، إلى الصفاء والرونق، وأزاح ما علق بها من دلالات المتكلمين؛ فأعاد رسم وتوجيه مؤشر العلاقة بين الصدر والعجز، أو ما عبرت عنه سابقا بركني الغموض، تنبيها للمتلقين السابقين الذين أوهمهم المبدع حين بدأ وصف الخمر بفرقة كلامية، وأنهاه بدلالة لغوية!
وهكذا يمكن اعتبار قراءة المعري قد مثلت ذروة القراءات المتفاعلة مع بيت أبي تمام، فباستثناء قراءة الأعلم الشنتمري، لا نعثر إلا على صدى القراء السابقين؛ حيث يقول الأعلم شارحا بيت أبي تمام: (مذهب جهم ألا تثبت صفة للبارئ سبحانه من الصفات التي يقع فيها الاشتراك، فيوصف بها المخلوقون، كقولنا: عالم وراحم، فقول الجهمية لا يقول الله عالم، إنما يقول الله ليس بجاهل، فينفي عنه ضد هذه الصفة التي تكون للمخلوق، ولا تقول عالم لأن هذه الصفة تكون للمخلوق، فكأنا شبهنا الله تعالى بغيره، حيث وصفناه كما يوصف غيره، وكذلك يفعلون في سائر الصفات.
فيقول أبو تمام: هذه الخمر لا نظير لها، فهي لا توصف بما يوصف به غيرها، ولكن ينفي عنها أضداد الصفات، كما فعلت جهم في صفات البارئ جل وعز.
ثم قال: إلا أنهم يلقبونها بلقب تنفرد به لا يشركها غيرها فيه، وذلك اللقب أن يقال: هي جوهر الأشياء. فإذا كانت جوهر الأشياء فالأشياء كلها أعراض، فقد أفردت بلقب لا يكون لغيرها، لأن اسم الجوهر لا يقع على العارض، كما أن قولنا: إله وخالق لا يقع لغير الله تعالى، وهذا مما يثبته جهم، فإذا سميت الخمر جوهرا، فسائر الأشياء أعراض، والجوهر أفضل من الأعراض، والخمر إذا أفضل الأشياء)([94]).
فالأعلم يرى أن مذهب جهم يقوم على التحرز من استعمال الصفات الموجبة تفاديا للوقوع في التشبيه، والتركيز على استعمال نفي الصفات السلبية، تنزيها لله تعالى، غير أن ذلك التحرز قد يراه صنف من المتلقين "جحودا ونقصا في التحصيل"، ما دام الله تعالى قد أثبت تلك الصفات لنفسه؛ ومهما يكن من أمر مذهب جهم، فإن حقيقة مذهبه لا تهمنا، بقدر ما يهمنا كيف وظف كل متلق فهمه الخاص لمذهب جهم في قراءة بيت أبي تمام، حيث إن قراءة الأعلم الذي أثبت رواية "الوصاف" فقط، يمكن تمثيلها وفق الخطاطة التالية:


مذهب جهم: عدم إثبات الصفات الموجبة      –  نفي الصفات السلبية    = تفرد الذات الإلهية
     =                    =                          =
الخمرة: عدم إثبات الصفات التي يوصف بها غيرها – نفي أضداد هذه الصفات = تفرد الخمرة
                                                                                   جوهر الأشياء
                                                                                   لقب تنفرد به.
فالملاحظ أن الأعلم قد بحث عن الانسجام التام بين صدر البيت وعجزه، أي ركني الغموض، إذ بحث وتوسع في مذهب جهم، وربطه بالعجز، حيث إن الصفة التي يثبتها جهم لله تعالى (الألوهية والخلق)، مما لا يقع فيه اشتراك، تعتبر جوهرا، أما الصفات التي يقع فيها اشتراك فهي أعراض، وعلى هذا الأساس يبني علاقة التشابه.
أما الخطيب التبريزي فإنه اكتفى بإيراد قراءتي أستاذه أبي العلاء، وقراءة المرزوقي، دون أن يفاضل بينهما، أو يضيف جديدا، وإن كان عدم إشارته إلى أبي العلاء يوحي بتبني قراءته، واختيارها من بين قراءات عديدة، دون أن يغيب عن أذهاننا أهمية الاختيار ما دام اختيار المرء "قطعة من عقله"([95])، أي أن هذا الاختيار ليس غير تجل لاستمرار نمط من التلقي وصنف من أصناف القراءة.
والأمر نفسه ينطبق على ابن المستوفي الذي اكتفى بسرد القراءات السابقة، دون أن يضيف قراءة تفاعلية جديدة، إلا ما كان منه تعليقا على فكرة فرعية لإحدى تلك القراءات، إذ يعلق على قول الآمدي: «لأنهم ما رأوا أحدا لقبها بهذا اللقب»([96]) قائلا: (ما أظن أبا تمام أراد به مواضعة الناس على هذا البيت لها، ولا اصطلاحهم عليه، إنما أراد أن يقول: إن أصحاب جهم بن صفوان لقبوها بذلك، كما أخبَر أن أوصافها جهمية، أخبر أنهم وصفوها بذلك. ولهذا قالوا: إن روايةً "جهمية الوصاف" أولى لإعادة ضمير "لقبُوها" إليهم)([97])؛ فصاحب النظام يبني رأيه المعارض على فهم قصدية المبدع: "ما أراد... إنما أراد"، مستفيدا من القراءة التوثيقية لأبي العلاء.
كما يورد تفسير قصدية المبدع لأحد الشراح: (أراد به قول جهم: إن كل شيء عرض يزول إلا الجوهر الأصلي)([98])، ثم يعلق قائلا: (وهذا قول حسن إن صح قول جهم به)([99]).
واللافت للنظر في تعليق ابن المستوفي هو شرط صحة قول جهم لاستحسان تلك القراءة، مما يعني أن معيار صحة المعنى لم يقتصر على البنية النصية، وإنما امتد إلى كل ما له علاقة بالنص، حيث تبرز سلطة المرجع بشكل قوي.
ورغم تعدد القراءات وتضاربها، فإن ابن المستوفي يميل إلى رأي الآمدي، حين يقول: (فَسَّرَ كل عالم هذا البيت على ما أدَّاه رأيه إليه، والصحيح: ما ذكره الآمدي من قوله: وهذا البيت مما عهدتهم يفيضون فيه وفي تفسيره، فلا يصح إلا بالحدس والظن)([100]).
إن هذا النص المقتضب حافل بالدلالات التي نذكر منها ما يلي:
1-الحضور القوي لمعيار الصحة، سواء في جانبه المتعلق بتوجيه القراءات (الصحيح)، أو في جانبه المتعلق مباشرة بالنص (يصح).
2-سلطة المتلقي التي غدت هي الفيصل في فعل القراءة والتفسير، مقابل تلاشي سلطة النص، وهذا ما يتضح من الجملة الأولى.
3-وانتقال سلطة التفسير إلى المتلقي (العالم) أسهم حتما في تعدد القراءات، لأنها تخلصت من سلطة البنية النصية ودكتاتوريتها.
4-وهذا التعدد وتلك السلطة أديا بدورهما إلى إيثار القراءة النسبية، والتخلص من القراءة اليقينية الوثوقية؛ لأن ذلك أفضل سبيل يحترم شرط الصحة!
والملاحظ أن ابن المستوفي قد كثرت عليه القراءات الشارحة غموض البيت، حتى فقد ملكة تنظيمها بشكل نسقي، كما توضح ﺫلك الخطاطة الآتية:

خطاطة تبرز مدى تسلسل القراءة في قراءة ابن المستوفي لبيت أبي تمام.
قراءة الصولي ¬ حاشية إحدى النسخ ¬ حاشية أخرى ¬ حاشية أخرى ¬ قراءة الآمدي ¬ تعليق ابن المستوفي واختلافه مع الآمدي في قراءة قصدية أبي تمام في قوله: "لقبوها" ¬ حاشية من دواوين أبي تمام ¬ قراءة الآمدي [من كتابه الضائع] التي لا تختلف كثيرا عن قراءته السابقة [قراءة الموازنة] ¬ قراءة يحيى بن محمد بن عبد الله الأرزني ¬ تعليق ابن المستوفي على القراءات السالفة وترجيحه رأي الآمدي في تصحيح القراءة الحدسية الظنية ونفي القراءة الوثوقية ¬ قراءة أبي العلاء المعري ¬ قراءة المرزوقي وتتضمن الرد على الصولي.

وهكذا يتضح أن ابن المستوفي لم يتبع الخط  التعاقبي في سرد القراءات، بل إنه يورد قراءتين متشابهتين للآمدي، وهذا راجع إلى أنه كان يدون كل ما يعثر به([101]). وبعبارة أوضح فإن قراءة ابن المستوفي يمكن إدراجها في دائرة قراءة القراءة، أكثر من إدراجها في دائرة قراءة النص.
وهكذا يمكن أن نخلص إلى أن أبا تمام قد أثار سؤال الغموض لدى المتلقين المتعاقبين كما أثاره لدى القراء المعاصرين([102])، وإذا كان الجواب لدى هؤلاء قد نحا وجهة اتهام أبي تمام، عدا جماعة الكتّاب، فإن المتلقين المتعاقبين قد اختلفت ردود أفعالهم في معرض إجاباتهم عن ذلك السؤال؛ لكنها رغم هذا كانت تدور في فلك الوضوح وتمجده، حتى رأي الصابي الذي شكل استثناء من خلال اعتباره أن الشعر قائم على الغموض كان نتيجة تفضيله النثر على الشعر، ولم يكن ينم عن نظرة خاصة وموقف جمالي من الشعر، وبعبارة أوضح: كان أحد تجليات تقديم النثر المبني على الوضوح،على الشعر المبني على الغموض؛ أي أن الغموض مثل تهمة ونقيصة حطت من قيمة الشعر! بل حتى الإمام عبد القاهر الجرجاني الذي فتح نافذة لإطراء الغموض، كان سرعان ما يرتد إلى ما "عليه الناس" من تمجيد للوضوح، رغم محاولته تبني الوسطية، من خلال إشارته إلى المقصود من الوضوح، وهو ما ارتفع عن درك الابتذال، وإلى المقصود من الغموض المقبول، وهو ما نزل من درجة المحال.
والملاحظ أن أبيات أبي تمام الغامضة قد أثارت اهتمام جماعتين من جماعات التفسير، فهناك النقاد والبلاغيون من جهة، وهناك الشراح من جهة ثانية، وقد انعكس أفق كل جماعة في ردود أفعال أعضائها؛ حيث نلفي ردود أفعال النقاد والبلاغيين غالبا ما تكون مصحوبة بعبارات تنم عن أثر النص، من خلال قراءة تفاعلية لا تكتفي بالبحث عن المعنى الغامض، وإنما تعبر عن موقف المتلقي من هذا المعنى، سواء أكان حكمه مدحا أو قدحا في النص، وقد يتعداه إلى صاحب النص. ويجدر التنبيه إلى أن وجود ثنائية: الغموض/الوضوح، لم تكن إلا نتيجة للاختلاف في وصم النص بالغموض.
أما جماعة الشراح فقد كان أساس قراءاتهم استخراج المعنى الكامن في النص، والتنقيب عن قصدية مبدعه، لذا توارت القراءة المتفاعلة خلف القراءة الشارحة، فلم يظهر في ردود أفعَالهم ما ينم عن قبول أو رفض تلك المعاني الغامضة إلا لماما، بسبب كون عمل الشرح يتجه أساسا صوب تذليل النص الغامض، كما تشير إلى ذلك مقدمات الشروح.
وهذا التباين بين الجماعتين سيتجلى، أيضا، بشكل أوضح عندما يثار سؤال الخطأ، الذي ليس إلا نتيجة من نتائج الغموض وانزياح النص التمامي عن أفق التوقع السائد.





[1] - ينظر الفصل الثاني من كتابي  "تفاعل الدهشة الجمالية" ص 39 وما بعدها.
[2] - أخبار أبي تمام، ص 4.
[3] - أخبار أبي تمام، ص 14-15.
[4] - أخبار أبي تمام، ص 38.
[5] - نفسه، ص 38.
[6] - نفسه، ص 17.
[7] - نفسه، ص 17.
[8] - نفسه، ص 154.
[9] - أخبار أبي تمام، ص 155-156.
[10] - جعله قاسم مومني الجزء الثامن من الموازنة، ينظر: الموازنة بين أبي تمام والبحتري للآمدي، ص60.
[11] - الموازنة، 1/544.
[12] - نفسه، 1/563.
[13] - نفسه، 2/29.
[14] - نفسه، 2/39.
[15] - نفسه، 3/399.
[16] - نفسه، 3/600.
[17] - نفسه، 3/647.
[18] - الموازنة، 3/648.
[19] - نفسه، 1/544 و 563 و 2/39.
[20] - نفسه، 1/425.
[21] - نفسه، 1/139.
[22] - الموازنة، 1/544.
[23] - نفسه، 1/242 و 3/309.
[24] - الموازنة، 2/316 – 317.
[25] - ديوان أبي تمام بشرح الخطيب التبريزي، 1/425. وفيه: (وأراد "بالذوب" الريق، و "بالجمد": الأسنان. و"الناقع": المروي. وأراد وصف الثغر، فقال: هو من كثرة ريقه كالقلت، والقلت: مستنقع الماء...)،1/426.
[26] - الوساطة بين المتنبي وخصومه، ص 79-77.
[27] - نفسه، ص 68.
[28] - نفسه، ص 19.
[29] - الوساطة بين المتنبي وخصومه، ص 417.
* - في الأصل "الفارغة"، ولا شك في أنه خطأ مطبعي.
[30] - الوساطة بين المتنبي وخصومه، ص 417.
[31] - نفسه، ص 418.
[32] - الوساطة بين المتنبي وخصومه، ص 418.
[33] - نفسه، ص 419.
[34] - كتاب الصناعتين، ص 11-12.
[35] - تفاعل الدهشة الجمالية ص 43.
[36] - كتاب الصناعتين، ص 46.
[37] - نفسه، ص 32-33.
[38] - كتاب الصناعتين، ص 33.
[39] - نفسه، ص 34.
[40] - نفسه، ص 33-34.
[41] - كتاب الصناعتين، ص 29-30.
[42] - شرح مشكل أبيات أبي تمام المفردة، ص 93.
[43] - شرح مشكل أبيات أبي تمام، ص 137.
[44] - تم الاعتماد في رقم المجموع على ديوان أبي تمام بشرح التبريزي تحقيق محمد عبده عزام.
[45] - شرح مشكل أبيات أبي تمام، ص 140 – 180 – 188 – 212 – 216 – 404...
[46] - ديوان أبي تمام بشرح الخطيب التبريزي، 1/1.
[47] - ديوان أبي تمام بشرح الخطيب التبريزي، 1/25.
[48] - شرح ديوان أبي تمام -  الأعلم الشنتمري، 1/142.
[49] - ديوان أبي تمام بشرح الخطيب التبريزي، 1/2.
[50] - نفسه، 1/2.
[51] - نفسه، 1/2.
[52] - النظام في شرح شعر المتنبي وأبي تمام، 1/192.
[53] - نفسه، 6/226.
[54] - سر الفصاحة، ص 210.
[55] - نفسه، ص 210.
[56] - نفسه، ص 209.
[57] - نفسه، ص 209.
[58] - سر الفصاحة، ص 209-210.
[59] - نفسه، ص 215.
[60] - نفسه، ص 215.
[61] - نفسه، ص 215. ويتضح أن ابن سنان يربط الشعر بوضع الكلام في الاصل، ومن ثمة لا يراعي خصوصية الشعر في العدول عن اللغة الوظيفية.
[62] - نفسه، ص 216.
[63] - الموازنة 1/20-21 وقد حللت الجواب بالتفصيل في كتابي  تفاعل الدهشة الجمالية ص 48 وما بعدها.
[64] - نفسه، ص 216-217.
[65] - سر الفصاحة، ص 217.
[66] - أسرار البلاغة، ص 121.
[67] - نفسه، ص 139.
[68] - نفسه، ص 139-140.
[69] - نفسه، ص 140-141.
[70] - أسرار البلاغة، ص 147.
[71] - نفسه، ص 144.
[72] - نفسه، ص 145.
[73] - نفسه، ص 275.
[74] - روضة الأديـب في التفضيل بين المتنبي وحبيب، ورد النص في كتاب: "أبو الطيب وأبو تمـام في أدب المغاربـة"، ص 215.
[75] - نفسه، ص 217.
[76] - المثل السائر، 1/45.
[77] - نفسه، 1/51.
[78] - منهاج البلغاء وسراج الأدباء، ص 172.
[79] - نفسه، ص 272.
[80] - نفسه، ص 177 وص 173.
[81] - نفسه، من ص 177 إلى ص 184.
[82] - نفسه، ص 190.
[83] - سر الفصاحة 159، ومنهاج البلغاء وسراج الأدباء، ص 190-191.
[84] - ديوان أبي تمام بشرح الخطيب التبريزي،1/30.
[85] - شرح الصولي لديوان أبي تمام، 1/184.
[86] - الموازنة، 3/599-600.
[87] - الموازنة، 2/214.
[88] - نفسه، 3/698.
[89] - شرح مشكل أبيات أبي تمام المفردة، ص 248.
[90] - النظام في شرح شعر المتنبي وأبي تمام، 1/248.
[91] - ديوان أبي تمام بشرح الخطيب التبريزي، 1/30-31، والنظام في شرح شعر المتنبي وأبي تمام، 1/246-247.
[92] - ص؟؟؟ من هذا الكتاب.
[93] - حيث ذهب النقاد والبلاغيون إلى أنه من بلاغة الكلام إضمار ما لم يسبق له ذكر إذا كان مشهورا، مثل قوله تعالى: "إنا أنزلناه في ليلة القدر"، القدر، 1.
[94] - شرح ديوان أبي تمام – الأعلم الشنتمري، 1/214.
[95] - البيان والتبيين، 1/77.
[96] - النظام في شرح شعر المتنبي وأبي تمام، 1/244.
[97] - نفسه، 1/244-245.
[98] - نفسه، 1/244.
[99] - نفسه، 1/244.
[100] - نفسه، 1/246.
[101] - النظام في شرح شعر المتنبي وأبي تمام، 6/55.
[102] - ينظر كتاب تفاعل الدهشة الجمالية ص 39 .


0 التعليقات:

إرسال تعليق

قراءنا الكرام في مدونة المختار نلتقي، وبالحوار الهادف نرتقي