الأحد، 15 مارس 2015

إشكالية اللغة والفكر - محمد الكتاني


المصدر الأصلي للمقال من هنا

إشكالية اللغة والفكر
-1-
kettaniمنذ انبعث العالم العربي من هجوعه في النصف الأخير من القرن الماضي وهو يبحث عن ذاتيته ويتحسس طريق نهضته، كأنما كان يحاول الخروج من تحت أنقاض بناء شامخ تهاوى فوقه. كان هذا العالم يعيش على وتيرة من حياة مقيدة بكل أثقال وأوزار العصور التي خلت. فلما انفتح على العالم الغربي بسبب الاستعمار والغزو الأوروبي لبلاده زادته الحضارة الجديدة الوافدة ارتباكا وحيرة. إذ انقسم رأي أهل الرأي فيه حول مل ينبغي أن يسلكوه لتحقيق نهضته، على أنحاء من التفكير. فكانت طائفة من مثقفيه تدعوه إلى النظر إلى الوراء والأخذ عن السلف، أو إحياء تراث السلف، وكانت طائفة من مثقفيه تدعوه للنظر نحو الأمام والركض وراء الغرب للحاق بركبه في العلم والحضارة، بينما كانت طوائف شتى تقترح حلولا مختلفة بين هؤلاء وأولئك.

وكانت الضوضاء الفكرية التي ارتفعت بالدعوات والآراء المختلفة المتصارعة مما يزيده بلبالا وخبالا. وكان شر ما في هذه الضوضاء أنها كانت تحول بين العقول وبين الأصوات المخلصة يومئذ، تلك التي تنفذ إلى جوهر الداء والدواء. وكانت ترى أن البداية المنهجية لبناء النهضة يجب أن تنطلق من إصلاح الفكر وتقويم النظر إلى الأشياء من جديد. ثم إصلاح اللغة.
وفي هذه اللحظة قال الشيخ محمد عبده:"وارتفع صوتي بالدعوة إلى إصلاح أمرين خطيرين أو عظيمين":
1- تحرير الفكر من التقليد وفهم الدين على طريقة سلف الأمة.
2- إصلاح اللغة العربية.
هكذا بدأ منهج الإصلاح لمفكر عميق النظر، فهو يقوم على قطبي الفكر واللغة. وقد كان إصلاح اللغة يعني تحريرها من الجمود، وإحياء تراثها بإحياء ثقافتها من جديد. بعد أن فسدت |أذواق الناس وجمدت قرائحهم، واستعجمت ألسنتهم، ووقعت القطيعة بينهم وبين تاريخهم وتراثهم.
لم يفهم الناس يومئذ معنى أن تكون البداية من اللغة هي البداية المنهجية للنهضة، بل مشوا مكبين على وجوههم، وظنوا أن البداية للرقي هي في اصطناع الأزياء الجديدة، واستهلاك المصنوعات الغربية الحديثة. إذ كان تصورهم للغة من البساطة بحيث لم يتجاوز حدود الإدراك العام. إلا أن الزمن كان كفيلا بأن يظهر ذلك التناقض الذي ينطوي عليه واقع الأمة العربية يومئذ، إذ بعد مرور عقدين أو ثلاثة من السنين بدأ الصراع اللغوي بين أنصار الفصحى وبين أنصار العامية، بين دعاة القومية الضيقة الذين رأوا منهج النهضة في إحياء لغات مندثرة أو اصطناع عاميات مبتذلة، وبين دعاة اللغة العربية وحماتها الذين رأوا ألا قومية ولا شخصية إلا في إطار الإسلام والعروبة بالمعنى اللغوي لا العرقي.
وأسهم الأجانب المستعمرون والمبشرون يومئذ في تحريك ذلك الصراع في المغرب والمشرق على حد سواء. واتخذت الدعوة إلى العاميات في العالم العربي شكل حملة منسقة منذ بداية هذا القرن إلى منتصفه. وأثناء ذلك ظهرت الدعوة إلى إلغاء النحو العربي أو إلى تجديده، وإلى إلغاء البلاغة العربية أو تطويرها، وإلى الثورة على الأدب العربي وإلقائه في البحر. والثورة على كل ماضي الأمة العربية واعتبار الماضي العربي بالنسبة لبعض البلاد العربية مرحلة من الاستعمار والتبعية والانغلاق والسقوط في عصور الظلام([1]).
وواجهت هذه الثورة الفكرية الهوجاء يومئذ مقاومة صامدة آمن رجالها بالأصالة الحضارية للأمة العربية وبالتراث الإسلامي، وباللغة العربية. وشهد لهم التاريخ الحديث بالبلاء الحسن في هذا الصراع. ولكن موقف هؤلاء لم يتجاوز حدود الدعوة إلى المحافظة والثبات على القيم، والصمود في وجه الثورة، في حين كان العصر والمرحلة التاريخي الحاسمة يتطلبان إعادة النظر في تقويم كل شيء.
لم يمتد الصراع إلى اللغة يومئذ في نطاق الصراع الإيديولوجي والاستعماري الذي شهده العالم العربي وما يزال يشهده حتى اليوم مصادفة واتفاقا. وإنما امتد الصراع إلى اللغة على أساس واضح وخطة مبينة. فإن اللغة التي كانت تسدد إليها يومئذ سهام الخصوم وحملات الطاعنين كانت بمثابة مستودع التراث العربي والإسلامي. وهذا التراث كان الحصن الحصين للعقيدة،والهواية القومية والتاريخية. فهو (أي التراث) القيم على استمرار الفكر الإسلامي، والقيم على استمرار الطابع العربي والعامل المشترك في صناعة المصير العربي الواحد.
وكان القضاء على هذه الحقائق أو تزييفها غير ممكن إلا بإحداث القطيعة بين اللغة العربية والأجيال الجديدة من أبناء الأمة العربية، وذلك بردهم إلى لهجات محلية متفرقة بحيث تقوم حدود لغوية صارمة بين كل قطر عربي وقطر. ويصبح التراث الذي صنعته القرون وأبدعته السيرة الحضارية غريبا على الألسن والعقول. أو قل يصبح تراثا أجنبيا يحتاج إلى الترجمة إلى هذه اللهجات التي تحولت إلى لغات، وهم لن يستطيعوا ترجمته، فضلا عن قراءته، فضلا عن تمثله والارتواء منه.
وهكذا يتم الفصل بين اللغة وبين الفكر، على أساس تنشئة فكر جديد ذي صول مبتدعة أو مجلوبة، وبقدر ما كانت هذه الغارة الشعواء شديدة الوقع بقدر ما كانت مقاومتها وتحديها شديدي المراس. وبقدر ما كان الداعون المخلصون من أبناء الأمة العربية \إلى مستوى التعبير عن المرحلة التاريخية والحضارية، واتخاذها أداة طيعة للبناء والتجديد.
كان منطق التجديد اللغوي، وإحياء اللغة، والارتفاع بها وبالناطقين بها وبالثقافة المعتملة فيها إلى المستوى المطلوب، من خلالها وبواسطتها منطقا يفرضه الواقع وتمليه طبيعة التاريخ.
فعندما قامت الثورة الفرنسية مثلا في أواخر القرن الثامن (1789) لم تمض أكثر من خمسة أعوام عليها حتى أسست في فرنسا الأكاديمية القومية للعلوم والآداب والفنون والأخلاق والسياسة، وذلك في ضوء ما مضى من تاريخ فرنسا، وفي ضوء ما تستقبله من مصير، أو تطور شامل، وكان من فروع البحث التي حددت لهذا المعهد القومي فرع بحث وتحليل علاقة الفكر بالعالم الخارجي، أي بالحواس، وباللغة، وبالمعرفة الإنسانية.
وقد قدم أحد أعضاء هذه الأكاديمية رأيا واضحا في هذا الموضوع الذي نتحدث عنه. وهو أن اللغة ليست لمجرد التعبير عن أفكار تكونت بل هي جزء لا يتجزأ من عملية التفكير ذاتها. وإذن فتطور العلوم والمعرف مرهون بتطور اللغة أو تطويرها، وهي نتيجة يمكن أن تصاغ على نحو آخر. وهو أن من المحال تحقيق تغيير للإنسان أو ترقيه للإنسان ما لم يسبق ذلك تغيير علاقته باللغة أو تطوير إحساسه باللغة، وإقداره على التأثر بها والتواصل معها.
وفي هذا السياق ترد أفكار ودعوات بعض المفكرين الفلاسفة من قادة القوميات الغربية في العصور الحديثة حول دور اللغة في خلق الفكر، وتأسيس الشخصية القومية. وتأهيل الإنسان للإبداع. فهذا هردر Herder الألماني يعلن أن رؤية الإنسان للعالم راجعة بالأساس إلى النسق اللغوي الذي ينشئها إنشاء. وأن لغة الأمة تتضمن هذه الرؤية التي توجه الأفراد وتوحد بينهم داخلها. فاللغة ليست أداة أو وسيلة وحسب بل هي أكثر من ذلك بالنسبة للأمة ولفكر الأمة، فهي الكل الحضاري والمستودع الثقافي والشكل الفكري([2]).
وهي نفس الفكرة التي يتلقاها مفكر آخر هو هامبولد Humbold ليحولها إلى صياغة جديدة. وهي أن اللغة هي أداة تغيير العالم وإعادة بنائه. ولن نستطيع أن ندرك أبعاد هذا الرأي إلا إذا وقفنا بالفعل ومن خلال التاريخ الإنساني على قدرة اللغة وطاقتها الإبداعية ووظائفها التطويرية من خلال نشوء الأمم وازدهارها وخمولها، حيث نجد وراء كل نهضة حضارية نهضة لغوية تزامن ازدهار الفكر وحيويته.
وهذا ما تجلى في عصر النهضة بالنسبة للوطن العربي حين صاحب الوعي القومي والوعي الديني إلى إحياء اللغة العربية والانطلاق من تأسيس الفكرة القومية العربية أحيانا على أساس لغوي، وقد غلا بعض الدعاة من أنصار القوميات العرقية في الدعوة إلى لغات مندثرة أو طالبوا بالتحول عن اللغة الفصحى إلى العاميات كما سبقت الإشارة إلى ذلك. وكان هؤلاء الدعاة الذين اعتبروا اللغة مظهرا وقاعدة في نفس الوقت للنهضة الجديدة لطفي السيد، وطه حسين، ومحمد حسين هيكل، وأمين الخولي من المصريين، وإسعاف النشاشيبي من فلسطين، وزكي الأرسوزي وسعيد الأفغاني من سوريا وغيرهم كثير إن لم نقل إن كل داعية مصلح ومفكر سياسي كان ينطلق من الدعوة إلى اعتبار اللغة العربية الإطار القومي اللغوي لتحقيق نهضة فكرية واجتماعية.
وقد وقفت طويلا في كتابي (الصراع بين القديم والجديد في الأدب العربي الحديث) على كل الأفكار المتصلة بإحياء اللغة العربية والدعوة إلى تجديدها أو دعوة خصومها مما لا يسع ذكره الآن. ويكفي أن نورد عناصر المنطق الذي رد به الرافعي على دعاة تمصير اللغة العربية باسم التجديد فيها وذلك أنه اعتبر اللغة العربية لغة دين قائم على أصل خالد هو القرآن الكريم، ولذلك يجب أن تظل لغة القرآن مفهومه بل متذوقة بل ظاهرة الإعجاز، ولا يتحقق ذلك إلا بممارسة الفصحى والتأدب بآدابها والاحتذاء عليها. وإذا كانت خاصية العربية في الفصاحة والبيان ليست في الألفاظ ولكن في تركيب الألفاظ، وأنساق التعبير وأسلوب الصياغة، فإن الإبقاء على هذه اللغة معناه إدراك دقائق العربية واستيعاب قوانينها نحويا وبلاغيا ومعجميا. فإذا كان ذلك صحيحا وهو أمر لا شك فيه فيجب أن نحرص كما يقول على الأصل الصحيح القوي الذي في أيدينا ونتحمل فيه ضعف الضعفاء ونصبر على مدافعتهم عن إفساده حتى ينشأ جيل أقوى من جيل ([3]).
وهناك المفكر العربي السوري زكي الأرسوزي الذي ألف كتابين عن اللغة العربية وضع فيهما فلسفة خاصة تقوم على اعتبار كون الأمة أي أمة لا تتجلى أصالتها وعبقريتها إلا في لغتها، فاللغة بالنسبة لأفراد تلك الأمة ليست مجرد أداة للتفاهم وإنما هي لباس لفكرهم وطباعهم ومرآة لعلاقتهم اللامتناهية مع الكون والتاريخ([4]).
كانت أفكار هؤلاء المفكرين وأفكار سواهم تنطق بإحساس العرب وهم يستجمعون أنفسهم ويخوضون معركة مصيرهم ضد الاحتلال الأجنبي والهيمنة الفكرية الأجنبية فكانت دعوتهم منسجمة مع روح عصر النهضة.
-2-
ولا نبعد في البحث عن تلك النهضة والنهضة العربية الكبرى عند ظهور الإسلام إنما كانت مثالا على هذه الحقيقة. فالواقع أننا أمة أنشأتها معجزة القرآن وهذه النشأة تعلمنا الكثير من الحقائق عن علاقة الفكر باللغة. فنشأة الدولة الإسلامية ثم الحضارة الإسلامية، ثم الفكر الإسلامي، كل ذلك جاء نتيجة لنفاذ كلمة الله إلى أعماق ذلك المجتمع الذي ظل يتأهل عبر العصور الجاهلية للالتحام بجوهر الكلمة المبدعة. ولم يكن للعرب علم غير علم لغتهم، وشعرهم وخطاباتهم. فلما جاءهم الخطاب الإلهي اهتزوا له اهتزاز الأرض الموات أصابها غيث فارتوت ثم أينعت.
وتاريخنا الثقافي والحضاري مصداق للمقولة الدائرة(في البدء كانت الكلمة) لأن البداية لإنشاء تاريخنا كان تلقيا عميقا لكلمة (اقرأ) وما تلاها من آيات بينات وغيرت نظرة أسلافنا للواقع، وحفزتهم إلى السيطرة عليه. وامتلاك ناصية العلم، وعمارة الأرض ونشر الإسلام ومعايشة الثقافات.
فالعربي الذي لا يهتز اليوم للغة القرآن ولا يستوعبها، ولا ينفعل بسحرها، ولا يدرك آماد إعجازها إنسان عاجز عن اللحاق بتاريخه فاقد للإحساس به. فضلا عن كونه عاجزا عن الإضافة إليه وإثرائه، لأنه ضائع بين قوميات لغوية، لا ينتمي لأي منها إلا على سبيل التبعية الفكرية والوجداينة.
وأعتقد بهذا الصدد أنه يستحيل قيام نهضة عربية خلاقة أو قيام مجتمع إسلامي موحد من غير جعل اللغة أداة لتلك النهضة وللتعبير عن حركة الخلق فيها. ومن غير جعل اللغة أداة لهذه الوحدة والتوحيد بشكل من الأشكال مهما بدأ هذا الرأي مغرقا في الخيال.
-3-
وهناك مظهر آخر لالتحام اللغة والفكر من خلال التراث الإنساني كله، ومن خلال واقع الصراع الفكري في ثقافة من الثقافات أو مجتمع من المجتمعات. وهو دليل على أن اللغة أداة للفكر ومادة له في نفس الوقت، ويخيل إلى أن التفكير إذ يتكون من التصورات والأحكام فإن تحليله إلى عناصره الأساسية لا يمكن أن ينتهي إلى غير ألفاظ اللغة المجسمة لتلك العناصر. وهذا ما يؤكد نظرية الفيلسوف المنطقي المعاصر فتجنشتين القائلة بأن اللغة مطابقة للواقع فكما أن اللغة تنحل إلى قضايا أولية فكذلك الوقائع تنحل إلى مكونات جزئية. والقضايا في النهاية ألفاظ وأسماء بسيطة لا يمكن تحليلها وإنما يمكن تسميتها فقط. فالأسماء إذن هي بداية تكوين الفكر واللغة معا.هي منطلق تكوين الواقع في التصور وبناء القضايا في المنطق والتفكير.
وتحتوي اللغة منطق الفكر نفسه وذلك لأنها تتيح للفكر تكوين الرموز الشيئية والرموز البنائية، أي تكوين القضايا في صياغة صحيحة دالة على مستويات متعددة. وتتوقف صحة التفكير على صحة استعمال هذه الرموز. وعندما يقع الاختلاف في الأفكار والآراء فقد يكون الباعث على هذا الاختلاف في الغالب خلافا في استعمال اللغة أو توجيه الدالة. وليس قصدي التهوين من شأن الاختلافات باعتبارها مجرد خلافات لغوية، فقد يكون الاختلاف منهجيا وقد يكون موضوعيا، ولكن اللغة دورا مهما في تعميق هذا الخلاف بين الآراء.
وهناك مثال في تاريخ الفكر الإسلامي يؤكد ما نقول – فقد كان في تاريخ هذا الفكر طائفة من اللغويين والأصوليين والفقهاء والمحدثين- تقيديت بالنصوص. أي جعلت الفكر تابعا للفظ الشرعي وللدلالة التي ينطوي عليها اللفظ. وهناك طائفة أخرى أنكرت أن يكون الفكر هو التابع للغة التابع للغة، لان منطقها من منطقه.
إن نزاع علماء الكلام بين أشاعرة ومعتزلة، وخلاف أهل الباطن مع أهل الظاهر، إنما يتمحور جله حول الموقف من النص الشرعي فطائفة وقفت على ظاهرة، وطائفة ذهبت في تأويله كل مذهب. طائفة تعتبر اللغة رمزا أكثر منها تحديدا لواقع أو حقيقة. وطائفة تعتبر اللغة حدودا وحقائق مطابق لمعانيها.
وهكذا يرجع الخلاف في أساسه إلى تحديد علاقة الفكر باللغة وعلاقة الواقع باللغة، فهل اللغة فوق العقل، وفوق حدود الفكر، أم العقل هو الذي يفوق اللغة ويجب أن يتحكم فيها. وقد ظهرت المشكلة في عمقها في بداية ظهور الإسلام عندما أصبح النص القرآني موضع نظر وتأويل وتحليل.
وعبر عن إجراك المشكلة في إطارها اللغوي من رجال الفكر والإسلامي يومئذ. فهذا ابن قتيبة يؤلف رسالة قيمة بعنوان (الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية والمشبهة) ليحسم الخلاف بين المحدثين والمتكلمين يومئذ في بعض قضايا علم الكلام.
وفي هذه المسألة أمثلة عديدة تدل على الموقفين المشار إليهما من قبل. موقف من يجعل العقل متحكما في اللغة، وموقف من يجعل اللغة متحكمة في العقل.
وظهر في الفكر الإسلامي منذ ذلك الحين تيار قوي يضم المعتزلة والمتصوفة والمتفلسفة يجنحون إلى تأويل. كل على شاكلته، وذلك ليتسق مذهبهم ومواقفهم مع النص القرآني حين يكون ظاهره مخالفا لتلك الموقف. ويمكن القول بأن طبيعة النص القرآني المتضمن للمحكم والمتشابه من الآيات هي التي حملت المتأولين على تأويلهم. وقد يطعن طاعن اليوم فيقول إن القرآن هو الذي أحوج إلى التأويل وأوقع في الإشكال، إذ لو كان قد ورد على نسق واحد من إحكام الآيات لارتفعت الحاجة إلى تأويل. ولزمت الحجة وذهب الخلاف من حيث أتى. ونرد على ذلك قائلين: إنما يتعين وجه الأحكام والتشبيه من جهة موضوع الكلام لا من جهة قائله: فالموضوع الذي يعرض له القول هو الذي يحدد طبيعة القول. فإن كان الموضوع ماديا ملموسا أو واقعا محسوسا أو معنى محدودا بالجهة والصفة والزمان والمقولات الأخرى كانت العبارة عنه محكمة لأنه محكم في تصوره كم حيث هو. وإن كان الموضوع مجردا غير محسوس ولا مقيد ولا مخصص ولا مقيس ولا هو من جملة ما يقع عليه اللمس والإشارة كانت العبارة عنه محوجة إلى المجاز، وكانت الدلالة عليه داخلة في أنواع من الدلالات مختلفة غير دلالة المطابقة.
فالمحكم والمتشابه من القرآن يأتيان من جهة موضوع كل منهما.لأن اللغة التي جاء بها القرآن أو نزل بها هي لغة العرب التي اتسعت في إعجاز وضروب الاستعارة على ما يعرفه علماء البلاغة. على أن ذلك المتشابه في القرآن ليس مما يعي العقول فهمه. كما قال ابن قتيبة إذ لم ينزل الله شيئا من القرآن إلا لينفع به عباده، ويدل على معنى أراده.
وكذلك كان رأي مفكري المعتزلة. في أن العلماء يعلمون تأويل القرآن لأن المقصود من الخطاب معرفة مراد المخاطب، فوجب أن يكون لمعرفة ذلك طريق تفضي إليه وإلا كان الخطاب تعميما وتلبيسا وعدولا عن البيان.
-4-
يقودنا هذا التمهيد إلى وضع إشكالية اللغة والفكر على صعيد أعم من أن يكون لغويا بحتا.لأنه يتعلق بالفكر وبالوجود الإنساني من حيث هو.
فإذا كان الإنسان يدرك بقدرته الفطرية نظاما لغويا ما، ثم يظل يتعلم –كما هو شأن الطفل- كيف يحول إدراكه لذلك النظام إلى بناء لغوي (كلام). فما دور الفكر إذن داخل اللغة أو خارجها. إن من الواضح في نظرية تشومسكي أن اللغة شيء والتفكير شيء آخر. وأن التفكير يستعمل اللغة كوسيلة وأداة للتعبير لا غير.
لابد هنا من التذكير بأن المواقف الرئيسية من علاقة الفكر باللغة تعود إلى ثلاث مواقف:
1- موقف يعتبر اللغة والفكر شيئا واحدا
2- موقف يعتبر اللغة قبل الفكر، وبواسطتها يتم إنشاء الفكر ذاته.
3- موقف يعتبر الفكر قبل اللغة ومستقلا عنها، وأن اللغة مجرد وعاء خارجي لعملية التفكير.
1) وأصحاب الموقف الأول هم العلماء النفسانيون السلوكيون أمثال (سكينير Skinner)، ولم تثبت نظريتهم عند التمحيص لأنه فضلا عما ثبت بالتجارب من كون الفكر يظل يشتغل حتى في حالة عجز الإنسان عن الكلام أو عدم قدرته على التعبير، فإننا نشعر جميعا بشكل مباشر أن تفكيرنا مستقل عن اللغة هو النظام التجريدي العميق الذي يدركه كل إنسان بفطرته ويستخدمه بقدر طاقته. وأن هذا النظام ملازم للتفكير وضروري له. وهذا اعتراض وجيه، ولكنه يحتاج إلى تمحيص.
2) وأصحاب الموقف الثاني هم الدارسون الانتروبولوجيون بعامة وبعض المفكرين الفلاسفة والمناطقة الوضعيين المعاصرين الذين قادهم البحث إلى الاعتقاد بأن اللغة هي التي تحدد طبيعة التفكير. فخصائص كل لغة تحدد خصائص تفكير أهلها. وهؤلاء القائلون بهذه النظرية متأثرون طبعا بالنزعة الاجتماعية القائلة بأن المجتمع هو الذي يصنع أفراده، يحدد لهم لغتهم كما يحدد لهم تفكيرهم.
ويعتبر الفيلسوف النمسوي لودفينغ فتجنشتين Ludlwing Wittgenstein (1889-1951) من أكبر الفلاسفة الوضعيين والمناطقة الكبار المعاصرين الذين تعمقوا علاقة الفكر باللغة، وقد كان يعتقد – وهذه عباراته- أن حدود اللغة التي أفهمها هي حدود عالمي([5]). كما كان يعتقد أيضا أن الفلسفة عبارة عن معركة ضد البلبلة التي تحدث في عقولنا نتيجة لاستخدام اللغة([6]) فسبب المشكلات الفلسفية والشكوك الفلسفية كلها ليس إلا استخدام اللغة استخداما خاطئا.
3) أما أصحاب الموقف الثالث فهم الفلاسفة المثاليون بعامة الذين يعتقدون بأن اللغة ليست سوى وسيلة للتعبير، وبأنها مستقلة عن الفكر وتابعة له تماما. وأن الأفكار تنشأ من غير أن يكون للغة دور تكوينها، لأن الفكر الإنساني ينبعث داخليا في حالات الصفاء الذهني البعيد عن كل أصوات اللغة وتأثيرها. وهذا معنى كون الإنسان يستغرق في تفكيره، ويستطيع أن يعبر عنه بغير اللغة، بالرسم والنحت والتصوير والموسيقى، وبشتى أشكال التعبير الأخرى. بل هناك من يذهب بعيدا فيدعي أن اللغة كثيرا ما تجهض الفكرة. وأن الشاعر حالما ينتهي من قصيدته يشعر بأن ما أراد التعبير عنه هو أكثر بكثير مما عبر عنه بالفعل.
ويتسق هذا الموقف من النظرية القائلة بان اللغة هي نظام من التواصل أي من الرموز والإشارات المعبرة عن أفكار ومعان لها استقلالها.
لم يستطع الماديون السكوت على هذا الموقف الذي يشطر الوجود الإنساني إلى روحي ومادي، ويعتبر الفكر أو الروح أسبق وأعلى من المادة. بل هاجموا هذا الموقف من أساسه. هاجم هؤلاء الماديون الفلاسفة المثاليين في موقفهم من اللغة. وهاجموا الوضعيين المطقيين، الذين ينكرون وجود واقع موضوعي خارج اللغة أو خارج ذواتنا، القائلين بأن حدود العالم هي حدود اللغة. ورفضوا انشطار الوجود الموضوعي – في مستوى اللغة - إلى لفظ ومعنى، وفي مستوى الأشياء إلى ذات وموضوع، وفكر وواقع، أو لغة وفكر.
ويقترح بعض المنظرين اللغويين السوفيت (سميرنيتسكي) حلا للإشكال افتراض لغة داخلية هي غير اللغة الخارجية. فيعود بنا إلى نظرية تشومسكي في هذا التقسيم. ثم يعتبر أن الفكر لا يمكن إن يتم بغير تلك اللغة الداخلية على الأقل. وهو الافتراض الذي يقوم على أساس تقسيم (دي سوسور) نفسه في التمييز بين اللغة والكلام.
-5-
وقد يتساءل المتسائل: ماذا قدمه الفكر الإسلامي من آراء في مجال فلسفة اللغة، ولا سيما ونحن نعلم أن المتكلمين قد خاضوا في بحث مشكلة اللغة، وقادهم التأويل إلى النظر في علاقة الفكر باللغة؟
إن الفكر الإسلامي اعتبر اللغة واصلا بين وجودين: أما أحدهما فوجود مطلق هو الله. وأما الثاني فوجود نسبي محدود وهو الإنسان. فاللغة واسطة بين عالمين أو وجودين أو طرفين.
والطرح الذي يقدمه الفلاسفة المسلمون للغة ينطلق من موقف ابستمولوجي بمعنى أنهم ينطلقون من تصور شامل للوجود يضعون الإنسان في حيز منه كما يوضع جهاز داخل نظام معين كنظام، ثم يعتبرون وجود الإنسان الوظيفي مرتهنا بالموضع الذي يحتله، وبالنظام الشامل الذي يحيط به. وبالهدف الأسمى الذي وجد من أجله. فعندما ينص القرآن على هذه الحقيقة: (خلق الإنسان علمه البيان) أو ينص على حقيقة أخرى: (وعلم ادم الأسماء كلها) يكون قد حدد المجال الذي على الفكر أن يتحرك لملئه. فالإنسان عند الجاحظ كما هو عند فخر الدين الرازي كائن يعي وجوده ووعيه للوجود فكر ناطق. ولا يكون الفكر إلا ناطقا. كما لا يكون النطق إلا فكرا.
قال الجاحظ:"ووجدنا كون العالم بما فيه حكمة، ووجدنا على ضربين: شيء جعل حكمة وهو لا يعقل الحكمة ولا عاقبة الحكمة. وشيء جعل حكمة وهو يعقل الحكمة وعاقبة الحكمة. فاستوى بذلك الشيء العاقل وغير العاقل من جهة الدلالة أنه حكمة.واختلفا من جهة أن أحدهما دليل لا يستدل، والآخر دليل يستدل، فكل مستدل دليل وليس كل دليل مستدل. فشارك كل حيوان سوى الإنسان جميع الجمادات في الدلالة. وفي عدم الاستدلال واجتمع للإنسان أن كل دليلا مستدلا، ثم جعل للمستدل سبب يدل على وجوه استدلاله ووجوه ما نتج له الاستدلال وسموا ذلك بيانا"([7]).
فاللغة لدى الإنسان اقتضاء وجودي. وعلاقته بها الطبع والاقتضاء لا بالغرض والاتفاق. وبهذا المنحى من التفكير يكون الإنسان قد وهب الفكر واللغة معا لا أسبقية لأحدهما على الآخر وإنما وجودهما معا داخل جدلية التكامل لا يتراءى لك أحدهما متقدما على الآخر إلا تراءى لك من وجه.
أما معنى كون اللغة واصلة بين وجودين وواسطة بين عالمين. فإن أكثر مما يتحقق ذلك في الإنسان. فالإنسان روح ومادة. واللغة واصلة بينهما. والله مطلق والإنسان نسبي وكلامه تعالى واسطة بينهما. ووجود الأشياء في حد ذاتها كون، ووجود الحكمة فيها كون آخر، واللغة مرآة بينهما والإنسان في ذاتيته عالم وسائر أفراده عوالم واللغة واصلة بينهما.
وبهذا المعنى ندرك الفكرة التي قررها ابن حزم حين نزل الظاهرة اللغوية منزلة الباعث على التئام البشر مع مقتضيات الطبيعة وبالتالي لالتئام الكون جملة. إذ يقرر أن علاقة الإنسان بالأشياء إنما علاقة (معرفة) ثم يقول : إنه لا سبيل إلى معرفة حقائق الأشياء إلا بتوسط اللفظ ثم يمضي في تقرير هذه الخصوصية الإنسانية فيضيف: إن اللغة فضلا عن كونها منفذا لتحقيق التواصل بالوجود فإنها كذلك جسر الإنسانية نحو إدراك القيم المجردة.
فاللغة إذن كما حددها الفكر الإسلامي تترقي في منازل الوجود الإنساني فتكون قوة كامنة. ثم تصير قوة بالفعل ثم تصير اكتسابا وفكرا ورؤية، ثم تصير عقلا مجردا وبذلك تلتحم اللغة بالفكر فيكون لكل منهما من الوجود بقدر ما للآخر. ولو أن أيا منهما جاء اعتباطا وارتبط بالآخر اتفاقا لكان جوهر كل منهما مباينا للآخر.
فكأن خلقهما في لحظة واحدة، ومفصلا على قدر وجود كل منهما. لا تجد إنسانا إلا ولغته بحجم عقله. وعقله بحجم لغته.
وإذا التفتنا إلى نظريات المحدثين والمعاصرين ورأينا تقريرهم كون اللغة بنية ونظاما متكاملا متحركا من داخله بقوانين كلية كما تقرر ذلك الألسنية البنيوية المعاصرة، فإننا نتساءل: هل تنشأ البنية عرضا من جملة بنيات مختلفة، أم أن البنيات كما نراها في الكائنات العضوية تبرز دفعة واحدة متميزة بكليتها ونظامها الذاتي، شأنها شأن البنيات الصناعية، لا تبرز إلا من خلال صانع وضع صورتها كلية، ثم أنجز تلك الصورة على أساس من التكامل؟ هذا الإدراك العميق النافذ إلى كلية اللغة العربية ونظامها البنيوي هو ما طاف بذهن ابن جني الوقاد. فقال :"اعلم أن واضع اللغة لما أراد صوغها وترتيب أحوالها هجم بفكره على جميعها، ورأى بعين تصوره وجوه جملها وتفاصيلها". وكأن ابن جني هاله نظام اللغة بوصفها كلا متكاملا وقادرا على النمو إلى ما لا نهاية، داخل قوانين معينة. وهو نفس ما أراد أن يفسره علميا تشومسكي أحد أعلام الألسنيين المعاصرين الأمريكيين مؤسس نظرية التوليدية والتحويلية. ونظريته تقوم على اعتبار اللغة كلا متجانسا قائما على بنية عميقة يدركها الإنسان المتكلم ويعيها حق الوعي ثم يخضع لها حينما يعبر. أي يقوم بتحويل خصائصها العامة وبشكل عفوي إلى بناء خارجي هو الكلام.
وقد تأكد من خلال التجارب العلمية أن نظرية تشومسكي صحيحة فيما يتعلق بكون الطفل لا يكتسب اللغة عن طريق محاكاة البالغين، بل إنه يفعل ذلك عن طريق تكوين الفرضيات واستعمال قواعد خاصة به، يجري تعديلها باستمرار إلى أن تشبه القواعد التي تحكم لغة الكبار. وأنه أي الطفل يعلم بشكل آلي أو عفوي أن اللغة محكومة بقواعد معينة عليه اكتشافها([8]).
إن ما يمكن ملاحظته يعد استعراض هذه المواقف تجاه إشكالية اللغة والفكر أن الفكر العلمي والفلسفي المعاصر لم ينتهيا إلى نتائج يمكن اعتبارها حقائق نهائية في مجال البعد العقلي للغة، أو البعد اللغوي للفكر.
إذ كانت مناهجهم ذاتها غير قادرة على الوصول إلى نتائج علمية يمكن الاطمئنان إليها. فهذه المناهج داخلية، تتحكم فيها مادة اللغة نفسها وطبيعتها ومنطقها الخاص، ولا يمكن معها الحصول على أي تفسير لما خارج اللغة نفسها من قوانين تتحكم فيها. ولتوضيح ذلك نذكر ما يلي:
لقد أصبحت اللغة كظاهرة إنسانية موضوع كثير من الدراسات والأبحاث العلمية المتنافية باسمرار. واستوجب البحث نفسه تقسيم الظاهرة إلى جوانب. فهناك الجانب الفسيولوجي المتعلق بأجهزة التصويت اللغوي. وهناك جانب الأصوات اللغوية نفسها. وهناك جانب النظام الداخلي لكل لغة. وهناك مستويات متعددة لهذا النظام. كالمستوى الصوتي والمستوى الدلالي والمستوى التركيبي.
غير انه إذا كان البحث الحديث في اللغة قد تميز بمنهجية علمية وصيغية دقيقة، أدى على إثراء الجانب فان القضايا الإشكالية المتعلقة بطبيعة اللغة ما تزال دون ما يطمح إليه الباحثون من نتائج. فالقضايا التي شغل القدماء أنفسهم بها ما تزال بعضها في نفس المستوى من الإشكال. كعلاقة اللغة بالفكر، وعلاقة اللغة بالواقع ومصدر اللغة أو نشأتها.
لقد كانت المنهج المصطنعة في البحث الألسني إما دراسة تحصر نفسها في دائرة البنية اللغوية كما تمثلها لغة من اللغات أو مجموعة متقاربة منها، وفي مستوى من المستويات كالصوتيات أو الدلالة أو التركيب.
وإما دراسة سلوكية نفسية تجريبية تنطلق من منطلق يحصر رؤية المنهج وأهدافه في تأكيد كون اللغة كالفكر مجرد عادات وسلوك يكتسبه الإنسان في حياته.
وإما دراسة منطقية توازن بين قوانين الفكر في الاستدلال والاستنتاج وكيفية استخدام اللغة في هذا المجال.
وإما دراسة تكنولوجية شكلية قائمة على الرياضيات أو المنطق الرياضي لمسايرة نظام البرمجة في العقول الالكترونية، وإذا كانت هذه المناهج تستطيع أن تحقق الكثير من المنجزات العلمية المتصلة بلغة من اللغات ووصفها وصفا دقيقا. فإنها لا تستطيع أن تصل إلى تحديد الوضع الخارجي للغة إلا بدراستها مقترنة بالفكر وبالنفس الإنسانية، لأن اللغة والفكر هما في النهاية شيء واحد. ودراسة الفكر واللغة باعتبارهما المميز للكائن الإنساني عن الحيوان، وعن كل الكائنات الأخرى تفرض وضع المشكلة في إطار الوجود الإنساني، وعلاقته بالعالم ككل.
وهذه النظرة الفلسفية إلى اللغة هي التي بوسعها مواصلة البحث والتأمل في طبيعة اللغة لا كنظام نحوي أو بلاغي أو تعبيري. ولكن كاستعداد ووجود بالقوة داخل الإنسان.
-7-
نخلص من هذا العرض إلى النتائج العلمية التي يمكن أن تتحول إلى سلوك لغوي بالنسبة لأمتنا التي هي في مرحلة من التاريخ تشعر فيها بالتخلف وبكونها تفقد الكثير من وسائل تنمية شخصيتها ومنهجية هذه التنمية.
لا شك في أن النتيجة الأولى التي تظهر واضحة هي ضرورة ارتباط نهضتنا الفكرية بنهضة لغوية تعبر عن هذا الفكر. وضرورة اعتبار اللغة الوجه الخارجي للشخصية الوطنية. فالذين يبحثون أو ما يزالون يبحثون عن تعويض اللغة العربية بأي لغة أخرى أو جعل هذه اللغة أو تلك في مستوى واحد مع اللغة العربية بحجة أو بأخرى يعملون من حيث يشعرون أولا يشعرون على تفتيت الشخصية المغربية الإسلامية والتنكر لتاريخها.
والنتيجة الثانية أن التاريخ الأوروبي الحديث يؤكد لنا أن نهضات الأمم الغربية الحديثة قامت على أسس، منها ما هو علمي وسياسي، ومنها ما هو قومي واجتماعي. وتحتل اللغة أو الشخصية اللغوية المكانة المرموقة بين هذه العوامل. مثلما كان الشأن في نهضتنا العربية التاريخية. فكل نهضة ننشدها خارج نهضة لغوية وأدبية لن يكتب لها النجاح.
والنتيجة الثالثة التي يجب الاعتراف بها هي أن أخلاقنا وتفكيرنا ينعكسان على لغتنا العربية وأي لغة أجنبية يبدو كم يتسع الفرق بين لغة التفكير والتعبير معا، بينما تعلمنا اللغة العربية التي ينفق في تعليمها مالا يحصى من الجهود والأموال والزمن تظل لغة للتعبير فقط.. وهذا ما يفسر فقرنا الفكري و الأدبي، لأن التلميذ عندنا يطالب أن يعبر قبل أن يطالب بأن يتأمل ويستنتج.
والنتيجة الرابعة وهي متممة لما قبلها تدفع فكرة كثيرا ما حاول البعض إثباتها في القديم أو الحديث وهي أن اللغات لا تتفاضل لأن مهمتها هي التواصل.وكلما تحقق هذا التواصل كانت اللغة في مستوى كل اللغات الأخرى بالنظر إلى هذه المزية. والحقيقة أن اللغات تتفاضل لأن التفكير يفرض ذلك. فإذا كان التفكير يتفاوت في عمقه وفي قوته وفي سعته وفي قدرته على الشمول والنفاذ إلى حقائق الأشياء وإحكام المنطق وتقصي كل الجزئيات فلا محالة أن تكون اللغة التي يعبر بها لغة متطابقة مع مداركه وعمقه وشموله وإحكام منطقه. فكيف يجوز الادعاء بأن اللغات لا تتفاضل وهي لغات أمم وشعوب منها ما بلغ في الحضارة شأوا بعيدا ومنها ما ظل تبعا لغيره في هذه الحضارة ومنها ما ظل متخلفا أو بدائيا. على أننا لو اعتبرنا اللغات غير متفاضلة لطمسنا حقيقة الإبداع الأدبي واعتبرنا أن الآثار الخالدة في الآداب العالمية هي كالكلام العامي الذي يتحاور به الغوغاء وعامة الناس. وإذن فلا بد من اعتبار اللغات متطابقة مع الحضارات والثقافات الإنسانية، فما كان منها محدودا متخلفا أو بدائيا كانت لغاته في مستواه. واللغة العربية من بين اللغات العالمية التي عبرت عن حضارة من أعظم الحضارات التي أبدعتها الإنسانية وتمثلت الثقافة العالمية في القرون الوسطى وكان أدبها في هذه الحقبة أدبا عالميا بكل ما لهذه الكلمة من معنى. ولذلك فهي قابلة بحكم غناها وعمقها لاستئناف المسيرة الحضارية من غير تعصب لها أو عليها.
لا أثير هنا مشكلة الازدواج اللغوي. لأن هذا الازدواج في عالمنا واقع لا مفر منه، وأداة من أدوات التعايش الحضاري والثقافي. ولكن ما ينبغي أن يقوم إلى جانب هذا الازدواج هو الإيمان باللغة القومية. باعتبارها النسق اللغوي الوحيد الذي يطابق ثقافتنا ويصلنا بتراثنا، ويرمز إلى شخصيتنا بكل مكوناتها وتطلعاتها.
ولا أثير هنا مشكلة اللهجات المحلية أو الإقليمية لأنها أيضا واقع لا مفر منه باعتبارها ثنائية مفروضة بطبيعة العوامل التي تتكون بها اللغات بإزاء اللغة القومية الأولى في كل زمان ومكان. إلا أنه يحسن التمييز بين اللغة التي تحتضن التراث العلمي والثقافي وتعبر في نفس الوقت عن حركة تاريخية يندمج فيها الشعب ويتحرك معها مشدودا إلى مبادئها وأهدافها، وبين لغات وقفت في الطريق كما وقفت مثيلاتها فاكتفت بأن تكون لغة أو لهجة تواصل عملي تحت ظل لغة قومية لها طبيعة اللغة الموازية للفكر والثقافة والحضارة القوميتين.
ونعود أخيرا إلى إبراز هذه المقالة من خلال الإطار الاجتماعي والحضاري الذي يخصنا نحن المغاربة وهو أن اللغة بالنسبة لنا هي عامل أساسي في صياغة وحدتنا الفكرية والعقائدية والتاريخية والسياسية.
وأن الفكر الذي هو الوجه الآخر لهذه اللغة سيظل فكرا عربيا مسلما لا خيار له أمام هاتين الحقيقتين الدامغتين.

هوامــش
[1] - راجع تفاصيل هذه الآراء وتحليلها وردها إلى أصولها في كتابنا " الصراع بين القديم والجديد".
[2]- انظر مقالة نورالدين كريدس عن اللغة بين معرفة الواقع وواقع المعرفة. مجلة الفكر التونسية، 29-1984.
[3] - الصراع بين القديم والجديد 795-976
[4] - صدر الكتابان ، أحدهما في دمشق سنة 1943 م والثاني سنة 1953م ثم جمعت أثاره في مجلدين صدرا بدمشق سنة 1972.
[5] -فتجنشتين ص147.
[6] - المرجع نفسه ص 149.
[7]- الحيوان1/ ص 33.
[8] - أضواء على الدراسات اللغوية المعاصرة للدكتور نايف ضرما.ص162.

0 التعليقات:

إرسال تعليق

قراءنا الكرام في مدونة المختار نلتقي، وبالحوار الهادف نرتقي