الخميس، 23 أكتوبر 2014

تعريب التعليم الجامعي بالمغرب حكمة ! د. المختار السعيدي




تعريب التعليم الجامعي بالمغرب حكمة !
د. المختار السعيدي
نائب رئيس جمعية الضاد (تازة)


في كل مرة تلوح بارقة أمل أو نأنس قبسا فكريا واعيا يخرجنا من سرداب التخلف، يطلع علينا صوت نشاز يعيد أسطوانات مشروخة، سرعان ما ينكشف عوارها أمام التحليل الهادئ البعيد عن الخلفيات الضيقة والتوجهات الانهزامية التي لم تستفد من دروس التاريخ ولا من فقه الواقع، ولا تنظر بعين الإنصاف نحو غد مشرق بعد جلاء ليل الاستعمار الثقافي الذي ما فتئ يعشش في لاوعي كثير من النخب المغربية.
وفي هذا السياق طلع علينا الأستاذ بمقال في هسبريس ظاهره فيه الرحمة وباطنه العذاب؛ اختار له عنوانا يبدو منسجما مع روح التفكير المنصف، حين صاغه استفهاما على النحو الآتي:
لكن تأمل هذا العنوان يشي لمن تمرن بالبلاغة العربية بموقف مستفز ضد اللغة العربية، إذ يبدو أن أستاذنا مستاء من التفكير (مجرد التفكير) الآني في تعريب التعليم الجامعي للعلوم والطب والصيدلة، ومتى كان مجرد التفكير يثير الحفيظة ويدفع للكتابة والتحذير؟ أليس التفكير أساس الوجود كما يقول بعض الفلاسفة؟ هل من الحكمة أن نحجر على الفكر ونوحي للقارئ بأن التفكير يخالف الحكمة؟؟ وإن لم نفكر الآن في تعريب التعليم الجامعي، فمتى نفكر فيه؟ أننتظر إلى أن يأتي من يفكر بدلا منا؟ ويخطط لنا؟ ألم يفتح الأستاذ عقله ويقرأ عن المؤتمرات التي تعقد هنا وهناك في مشرق الوطن العربي ومغربه، والتي تدحض ما يذهب إليه من أن التفكير آني..ويخلص إلى أن التفكير يشغل كل الغيورين على هذا الوطن الجريح بطعنات من ذوي القربى..؟
مما لا شك فيه أن الأستاذ قد أثاره المؤتمر الوطني الأول الذي تنظمه الجمعية المغربية للتواصل الصحي بتنسيق مع معهد الدراسات والأبحاث للتعريب، في 18 من أكتوبر 2014 بكلية الطب والصيدلة بالرباط، ومن العجيب أن الأستاذ قد نشر موضوعه تزامنا مع تاريخ انعقاد المؤتمر، وكان عليه من باب الإنصاف أن يحضر أشغال المؤتمر قبل أي حكم مسبق، ويفكر بصوت مرتفع كما يقال...أما أن يخلط الحابل بالنابل ويقفز على الواقع- حين ربط بين موضوع المؤتمر وتأكيد وزير التعليم العالي على ضرورة إتقان اللغة الإنجليزية باعتبارها لغة العلم تمهيدا لأن تتسلم المشعل من الفرنسية، وإن كنا لا نتفق مع السيد الوزير في هذه النقطة باعتبار أهمية الضاد في الرقي المعرفي دون إهمال الانفتاح على باقي اللغات الحية -  فذلك أمر غير مقبول ممن يبحث عن الخروج من ركب التخلف بالتفكير الموضوعي، الذي يبدو بعيد المنال عن مقال الأستاذ كما يتضح من مناقشة بعض القضايا التي أثارها في مقاله السالف، والتي سأوردها مقتبسة باللون الأزرق ثم أعلق عليها.
"من البديهي أنه لا أحد يعارض الاستخدام السليم للغة العربية وفي جميع المجالات. فالكل ناضل ويناضل من أجل تحقيق هذا الهدف. لكننا نعيش الآن حقيقة محزنة وهي أن تعريب التعليم الثانوي قد فشل ووصل الى مستوى كارثي لا يمكن الطلاب من الحد الأدنى المطلوب للكتابة ، والقراءة ..."
هذا ليس بديهيا يا أستاذ كثيرون يعارضون استخدام اللغة العربية حتى في بعض المجالات التي بات فيها استعمال الضاد أمرا مألوفا (الحملة التي يشنها الملهوجون والأمازيغيون الاستئصاليون والفرنكوفونيون..) وكأني بك غير مطلع على ما يجري من حولك...والأدهى أن تعمم وتقول بأن الكل ناضل من أجل هذا الهدف، عجيب أمرك أستاذ، وكيف تسمح لفكرك بقبول هذا المنطق الفج، إلا إذا كنت تقصد بالهدف شيئا آخر غير الحرص على استعمال لغة الضاد.
وثالثة الأثافي أن تربط بين التعريب وتدني مهارات التلاميذ خاصة في الكتابة والقراءة[مع التحذير من السقوط في فخ التعميم]، وتنسخ بذلك تلك المقولة التي أكل عليها الدهر وشرب؛ والتي جعلت التعريب الشماعة التي يعلَّق عليها فشل المنظومة التربوية؛ فقد بات من الواضح أن ذلك التدني ناجم عن خلل بنيوي لا علاقة له بسياسة التعريب التي وقفت في منتصف الطريق، وعرفت نكوصا(الإعلاميات تدرس حاليا بالفرنسية منذ الإعدادي) وسوء تطبيق تجلى في اعتماد الدارجة في التواصل كما تقر أنت بذلك، وكأني بك ترى أن التعريب هو التدريس بالدارجة حين تقول في مقالك:
"فاستعمال اللهجة الدارجة في التعليم العالي سيؤدي حتما الى تدهور المستوى العلمي لطلابنا ودبلوماتنا وكذلك الى تدني مستوى الاساتذة انفسهم لغويا وعلميا."
فأنت بين أمرين يعكسان تخبطك في الحكم: فإما أنك تعتبر التعريب مرادفا للتلهيج، وإما أنك تقيس سوء تطبيق التعريب في الثانوي على التنظير الفكري للتعريب الجامعي، وفي هذا الصدد أنصحك بالاطلاع على الكتابات المنظرة لتعريب التعليم الجامعي وخطوات تنزيله على أرض الواقع لاسيما الكاتب المغربي المعروف د. الفاسي الفهري.
لقد انطلقتَ من مقدمة خاطئة، لا علاقة لها بالدعوة إلى التعريب، وهي تلهيج التدريس الجامعي، ومن ثمة كانت النتيجة غير ذات جدوى، والصحيح أن استعمال الفصحى في التعليم العالي سيؤدي حتما إلى تطور المستوى العلمي لطلابنا، وارتقاء مستوى الأساتذة لغويا وعلميا...
"ولابد من الاشارة الى نقطة من الأهمية بمكان وهي أنني أتحدث هنا عن اللغة الفرنسية كأداة لغوية وليس باسم الفرنكوفونية. فهذه الاخيرة حركة سياسية وليست لغوية. هذه الأداة وأعني اللغة الفرنسية التي فرضها علينا التاريخ، والتي للأسف لم نحسن استعمالها للاستفادة منها في تنمية بلادنا."
لا يمكن الفصل بين الدعوة المغرضة ضد العربية إلا بربطها بسياقها وخلفياتها الفرنكوفونية، وكل محاولة للتنصل من الخلفية السياسية هي محاولة لحجب الشمس بالغربال، فاللغة ليست أداة نستعملها بمعزل عن سياقاتها وحمولاتها الفكرية والإيديولوجية، وإنما هي بنية فكرية عامة؛ والعجيب أنك تتحدث عن الاستعمار والتبعية الثقافية كنوع من الحتمية التاريخية التي ينبغي التسليم بها؛ ولست أدري سر أسفك عن سوء الاستغلال في الوقت الذي تتحدث في المقال نفسه عن كون التدريس بهذه اللغة هو الذي حفظ للتعليم الطبي مستواه اللائق !
"من المسلمات أيضا أنه لا أحد كيفما كانت كفاءاته العلمية يستطيع تبليغ بطريقة جيدة مفاهيم علمية دقيقة ومعقدة بلغة لا يتقنها !.."
مسلمة صحيحة، ولكن ليس المطلوب في الأستاذ أن يكون سيبويه عصره، ولعل كتابتك مقالا بالفصحى هو حجة عليك، وقد أكدت الدراسات المتخصصة أن ما ذهبتَ إليه ليس صحيحا، باعتبار أن تلك المفاهيم العلمية الدقيقة ذات نسبة ضئيلة يمكن تجاوزها بيسر إذا صلحت النيات وصحت العزائم...
ثم إنك تحدثت عن الباث في قولك السالف، ونسيت العنصر المتفاعل: المتلقي؛ فقد يكون الباث متقنا للغة موليير ولكن المتلقي غير كذلك، ومن ثمة يحدث الخلل في التواصل؛ حتى لو سلمنا جدلا بصحة كلامك أعلاه؛ ومن ثمة يصبح من اللازم إصلاح الخلل بمراجعة لغة التدريس، اللغة الفرنسية التي نعتبرها دخيلة، مقابل اللغة الأصيلة، اللغة الدستورية التي تملك كل مؤهلات اللغة العالمة، من نحت واشتقاق وتعريب...
"في الوقت الراهن ليست لنا كفاءات جامعية تستطيع تدريس جميع التخصصات العلمية باللغة العربية بطريقة جيدة."
لعل عقد المؤتمر كان بغرض مناقشة هذه الفكرة، ومن قال بأن التدريس بالعربية سيتم بين عشية وضحاها، لم لا ينطلق الأمر بشكل تجريبي، ويفتح مجال الاختيار للطلبة، وتفتح جامعات معربة على غرار التوجه السلبي في الاتجاه المعاكس الذي دشنته وزارة التربية الوطنية في الباكالوريا الدولية...؟
"فمن الحكمة الآن الاستمرار في تدريس هذه المواد باللغة الفرنسية مع اعطاء كل الدعم للطلبة في هذه اللغة."
بل من الحكمة التفكير في تدريس هذه المواد باللغة العربية، لأن اللغة مشروع مجتمعي قبل أن تكون أداة للتواصل، ومن ثمة يجب إعطاء كل الدعم للأساتذة في أفق تعريب الشعب العلمية.
"انه على الرغم من الأزمة التي يعيشها نظام التعليم بالمغرب، فقد تمكن التعليم العالي والجامعي العلمي وخصوصا العلوم الطبية والصيدلانية بطريقة أو بأخرى من الحفاظ على المستوى اللائق، لذلك يجب ابعادهم عن الديماغوجية الحزبية الضيقة والنفاق والمبادرات الانتحارية!"
هل ذلك الحفاظ ناجم عن التشبث باللغة الفرنسية التي تقهقرت إلى مراتب متأخرة مقارنة مع صعود نجم اللغة العربية على الصعيد العالمي، أم راجع إلى ظروف أخرى لا علاقة لها باللغة الفرنسية، التي أوقن بأن استبدال العربية بها سيحل جانبا من الإشكال التربوي، ويفسح المجال أمام شريحة واسعة من المغاربة لولوج عالم المعرفة حين يكون بلغتهم التي ألفوها وأحبوها، وإن الانتحار والنفاق لهو ادعاء النضال من أجل اللغة العربية في الوقت الذي يسال فيه الحبر من أجل وأد المبادرات الجريئة والركون إلى لغة تقهقرت إلى أدنى مستوياتها على الصعيد العالمي!

0 التعليقات:

إرسال تعليق

قراءنا الكرام في مدونة المختار نلتقي، وبالحوار الهادف نرتقي